الأربعاء، 4 يونيو 2008

لبنان

لبنان

لبنان في الأصل دولة طائفية أوجدها الفرنسيون للموارنة سنة 1920م، وتعود العلاقات الفرنسية بلبنان إلى عهد لويس التاسع حيث كتب رسالة إلى الموارنة عام 1250م جاء فيها: "إننا موقنون أن هذه الأمة التي قامت تحت اسم القديس مارون هي جزء من الأمة الفرنسية".
وبعد أربعمائة عام من هذه الرسالة وفي الحروب الصليبية تعهد لويس الرابع عشر في العام 1649م بحماية الكنيسة المارونية وطائفتها في لبنان.
وفي العام 1860 اتفقت فرنسا مع بريطانيا على إنشاء متصرفية جبل لبنان التي تحكم ذاتياً بعيداً عن تدخل الدولة العثمانية. وكان الموارنة إضافة إلى بعض الطوائف النصرانية في وسط لبنان يشكلون غالبية السكان. ولكن في العام 1943م تم توسيع حدود لبنان ليشمل البقاع وسائر المدن الساحلية الأخرى، وأصبح النصارى في ذلك الوقت يشكلون أغلبية بسيطة تتجاوز ألـ 50% بقليل في لبنان الجديد سمي لبنان الكبير.
ثم في الستينات والسبعينات من القرن الميلادي الماضي بدأ النصارى يفقدون أغلبيتهم البسيطة إلى أن انحسر وجودهم في لبنان إلى ما يزيد قليلاً عن الثلث فيبلغ عدد سكانهم اليوم أقل قليلاً من مليون ونصف المليون نسمة، بينما يبلغ عدد سكان المسلمين 2 مليون نسمة، والدروز يزيد عددهم قليلاً عن المائتي ألف نسمة.
إن بناء الدولة في الأصل من قبل المستعمر الفرنسي أثر في جعل القيادات العليا فيها من النصارى وخاصة الطائفة المارونية، بحيث لم يجرؤ زعماء الطوائف الأخرى منازعة الموارنة على زعامة لبنان وأجمعوا في الاتفاقيات ((كاتفاقية الطائف)) على أن تبقى رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش بيد الطائفة المارونية. وقبل استقلال لبنان تبنت فرنسا النصارى بزعامة الموارنة، وتبنت بريطانيا الدروز، وغرستا الطائفية في لبنان في وقت مبكر.
وانسحبت الصبغة الطائفية هذه على السياسة والدستور والقوانين والوظائف والعلاقات والحرب والسلام في لبنان.
وبينما دعمت فرنسا النصارى، ودعمت بريطانيا الدروز لم يدعم أحد المسلمين وظلوا مهمشين في الوظائف والتأثير السياسي.
وكان الصراع بين بريطانيا وفرنسا ينعكس في لبنان من خلال النصارى الموارنة والدروز، واندلعت المعارك بين الطائفتين وتناحرتا طويلاً إلى أن هدأت بينهما الأمور بعد تغير الظروف ومراكز القوة. وقد عبَّر وليد جنبلاط الزعيم الدرزي عن هذه الحقيقة بالقول لبنان عبارة عن صفقة طائفية، فيما قال إيلي فرزلي نائب رئيس مجلس النواب ووزير الإعلام السابق: "لبنان بلد مزرعة" ويقصد أن لكل طائفة حصتها من كعكة الدولة اللبنانية. وأما الأغلبية من اللبنانيين الذين هم من المسلمين فما كان أمامهم سوى الانضمام إلى سوريا.
استفادت سوريا من ولاء المسلمين في لبنان لها وهذا ما جعلها تتدخل في الشؤون اللبنانية منذ وقت مبكر تحت شعارات الوحدة والعروبة والشامية والقرابة والعمق وما شابه ذلك من أواصر بين سوريا ولبنان.
لذلك رفضت سوريا الاعتراف رسمياً باستقلال لبنان، ورفضت إقامة علاقات دبلوماسية معه. ولم ترسم الحدود بشكل دقيق بين البلدين حتى الآن على الرغم من مطالبة القوى الكبرى بترسيم الحدود. فكانت الهيمنة السورية على لبنان في أوقات عدم الاستقرار أمراً طبيعياً.
وفي خمسينيات وستينات القرن العشرين تمكن الإنجليز من السيطرة على الطائفية المارونية سياسياً من خلال كميل شمعون الذي حكم الدولة اللبنانية بحنكة سياسية وتنسيق كامل مع عملاء الإنجليز في المنطقة ورضي الفرنسيون بحكمه على أن يستمروا في السيطرة الثقافية والاقتصادية على لبنان من خلال حزب الكتائب أكبر وأهم الأحزاب اللبنانية بقيادة البير الجميل.
وتعاون كميل شمعون التابع للإنجليز وألبير الجميل التابع للفرنسيين على حكم لبنان لصالح الأوروبيين. ومع مجيئ الفلسطينيين إلى لبنان بعد خروجهم من الأردن في عامي 70 وَ71 تغيرت الأوضاع وخاف النصارى على امتيازاتهم فاندلعت الحرب الأهلية في لبنان بين المسلمين والنصارى في العام 1975م اختلط فيها الحابل بالنابل، ووجدت أميركا فرصتها بمد نفوذها إلى لبنان من خلال هذه الحرب، فكلفت عميلها حافظ الأسد بإدخال جيشه إلى لبنان بحجة إيقاف تلك الحرب من خلال ما وصف بقوات الردع العربية التي أقرتها الجامعة العربية بإيحاء أميركي. ودخلت القوات السورية التي أصبحت وحدها تمثل قوات الردع العربية إلى لبنان، ودخل معها النفوذ الأميركي بكامل ثقله إلى لبنان.
تمخضت الحرب الأهلية التي استمرت خمس عشرة سنة عن طرد الفلسطينيين من لبنان والقضاء على نفوذ الشمعونيين والكتائب وإضعاف القوى السياسية التابعة للإنجليز والفرنسيين في لبنان، وخرجت القوى التابعة لأميركا منتصرة من هذه الحرب، ووقع اتفاق الطائف في السعودية، واعتلى الحكم في لبنان بعد العام 1990م عملاء أميركا من خلال الدبابات السورية وتم إزاحة الشمعونيين والكتائبيين عن السلطة تماماً. واضطر عملاء بريطانيا وفرنسا إلى مداهنة السوريين وأصبحت دمشق قبلة السياسيين من كل الانتماءات وتحولت لبنان بالفعل إلى محافظة سورية كمحافظة حمص أو حماة، وكان بمقدور سوريا إعلان الوحدة بين البلدين بسهولة لو أرادت دون أن تلقى أية مقاومة تذكر، لكن الأوامر الأميركية لم تسمح للسوريين بتوحيد لبنان مع سوريا وإن سمحت لهم بالهيمنة عليها.
استقر الحكم لسوريا في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990م وحتى العام 2004م. في هذه الفترة ظهرت قوى سياسية لبنانية جديدة موالية لسوريا لم تكن لها أية قيمة من قبل، ومن أبرز هذه القوى الجديدة الحركات الشيعية وعلى رأسها أمل وحزب الله.
حاولت بريطانيا تسديد ضربتها لهذه القوى الموالية لسوريا باستخدام قواها خارج لبنان، فاستخدمت عميلها القذافي الذي استدعى أبرز شخصية شيعية مؤثرة في ذلك الوقت موسى الصدر الذي تم تغييبه، كما استخدمت بريطانيا الكيان اليهودي لتسديد ضربات لسوريا وحلفائها في لبنان عدة مرات، لكن هذه الضربات فشلت في إضعاف هذه القوى، بل إنها ازدادت قوة على قوتها.
وظهر حزب الله كقوة سياسية وعسكرية هائلة في لبنان ودعم من قبل إيران، إضافة إلى الدعم السوري، وأصبح لا يضايق عملاء فرنسا وبريطانيا في لبنان وحسب بل أصبح يضايق إسرائيل نفسها.
وظهر في هذه الفترة أيضاً رفيق الحريري شخصية سياسية محسوبة على السعودية، ولكنها كانت شخصية يغلب عليها الناحية الاقتصادية والمجتمعية وليس الناحية السياسية.
ساير الحريري السياسات السورية فترة حكم الملك فهد الذي كان يشكل محوراً أميركياً إقليمياً ناجحاً مكوناً من مصر وسوريا والسعودية، ولكن مرض الملك فهد وضعفه ثم موته أدى إلى انحلال هذا المحور وتغير سياسات السعودية على يد ولي العهد ثم الملك عبد الله فيما بعد، وتغيرت السياسات السعودية مع سوريا ولبنان خاصة بعد أن ظهر ضعف بشار الأسد.
ومع هذا التغير انحاز رفيق الحريري إلى معارضة النفوذ السوري في لبنان وقال قولته المشهورة: "لا يحكم لبنان من سوريا، لكنه لا يحكم ضد سوريا" وتبنته فرنسا على الفور ودعمت توجهه وأقامت علاقات مميزة معه، واستغل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الفرصة وضغط على إدارة بوش المشغولة بالعراق وأفغانستان واستصدر من مجلس الأمن القرار رقم (1559) الداعي إلى انسحاب القوات السورية من لبنان.
استغلت فرنسا ضعف الأسد وانشغال أميركا بالعراق وعدم دعم الإدارة الأميركية لنظام بشار الأسد بالقدر الذي كان أيام والده حافظ خاصة وأنها علمت أن هناك جهوداً لبعض صقور الإدارة الأميركية تصب في صالح هدفها وهو إسقاط النظام السوري والتي تراجعت عن هذا الهدف فيما بعد. وضاعفت ضغوطها ضد الأسد وكان هذا خطأ أميركياً فاحشاً ارتكبته إدارة بوش.
وتبع هذا الخطأ الأميركي خطأ آخر تمثل باغتيال عناصر أمنية سورية لرفيق الحريري فاستغلته فرنسا وأوروبا أسوأ استغلال، وحملت المجتمع الدولي بما فيه أميركا على الضغط على سوريا لسحب قواتها من لبنان وتنفيذ القرار (1559)فوراً، واضطر النظام السوري لسحب قواته صاغراً من لبنان بسرعة قياسية وتنفيذ القرار الدولي دون أي تحفظ.
ثم ساندت بريطانيا فرنسا في ضغطها على نظام بشار الأسد وطمعتا بالإطاحة، وأثارت قوى المعارضة في سوريا وحاصرتا النظام السوري وحاولتا ملاحقته داخل سوريا نفسها وإسقاطه بالقوة.
خافت الإدارة الأميركية على ضياع سوريا من يدها فخففت ضغطها على بشار الأسد ولم تجد وسيلة أفضل من العودة إلى سياساتها القديمة في دعم النظام السوري.
وأجريت انتخابات نيابية في لبنان عام 2005م كانت نتيجتها لصالح عملاء أوروبا حيث أثر اغتيال الحريري على الانتخابات عاطفياً وفازت قائمته والقوائم المتحالفة معها.
وانقسم المجتمع السياسي في لبنان بحدة إلى مجموعتين متناحرتين متناقضتين: مجموعة أوروبية تمتلك الحكومة، ومجموعة أميركية تمتلك الرئاسة.
وضمت المجموعة الأولى حزب الكتائب بزعامة الجميل وجماعة الحريري الموالين لفرنسا والقوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط الموالين لبريطانيا.
وشكلت هذه الأحزاب التابعة لأوروبا حكومة برئاسة السنيورة الذي له علاقات مشبوهة مع المخابرات الأردنية.
وأما المجموعة الثانية فكانت مكونة طبيعياً من حلفاء سوريا وعلى رأسهم حزب الله وحركة أمل ومجموعات طائفية أخرى صغيرة، واستقر به المطاف أخيراً إلى جانب عملاء أميركا في لبنان.
حاولت أميركا تعقيد الأمور وإدخال سوريا في حرب تحريكية في تموز من العام 2006م، فدخلت قوات اليهود إلى لبنان وتعرضت لهزيمة منكرة على يد مقاتلي حزب الله، ولم تنجح في توسيع المعركة لتشمل سوريا وليبدأ الثقل بالعودة إلى السوريين بعد حرب مخطط لها مع إسرائيل.
وكانت نتيجة الحرب بعكس ما أرادت أميركا منها، حيث زداد الوجود الأوروبي في لبنان، ونزلت القوات الفرنسية والإيطالية لأول مرة في الأراضي اللبنانية، وتراجعت قوات حزب الله، وتم حماية الكيان اليهودي من ضربات مقاتلي حزب الله من خلال هذه القوات الأوروبية.
وبعد الحرب سعت القوات الموالية لأميركا وسوريا في لبنان إلى توحيد صفوفها ومحاولة إسقاط الحكومة، فقامت بأعمال سياسية وجماهيرية لم تنجح بواسطتها من إسقاط الحكومة.
وزادت عملية الاستقطاب السياسي في لبنان، وتزايد انقسام اللبنانيين بشكل حاد بين المجموعتين المتناحرتين. واستخدمت مجموعة أميركا وسوريا العماد ميشيل عون استخداماً ذكياً وتكتلت حوله ليكون الرئيس القادم للبنان فيما أصرت مجموعة أوروبا على انتخاب رئيسها بما لها من غالبية في البرلمان من خلال صيغة النصف زائد واحد.
واحتدم الصراع وبدأت أميركا وفرنسا بالبحث عن حلول وسط.

ليست هناك تعليقات: