أزمة الغلاء العالمية
–الأسباب والحلول-
إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية عالمياً قد أوجد أزمة غلاء حادة استشرت في معظم بقاع العالم، وأثرت على الطبقات الفقيرة والدنيا في سائر المجتمعات.
وهذه الأزمة ليست مجرد سحابة صيف عابرة بل إنها مرشحة للاستمرار والبقاء لسنوات طويلة أو ربما لعقود قادمة. وإطلاق وصف (تسونامي اقتصادي إنساني) عليها من قبل المفوض الأوروبي للتنمية لوي ميشيل، إطلاقه لهذا الوصف عليها فيه شيء من الحقيقة، فقد نجم عنها اضطرابات واحتجاجات عارمة شملت دولاً في القارات الخمس، ولذلك فإن هذه الأزمة بدأت تأخذ منحنىً تصاعدياً مضطرداً في مختلف دول العالم.
وليس من باب الصدفة أن يتحدث مدير إدارة خفض الفقر في البنك الدولي مارسيلو جيوجيل عن أن تضاعف أسعار المواد الغذائية في السنوات الثلاث الأخيرة قد يهوي بمائة مليون شخص في أنحاء العالم إلى أعماق الفقر وأن معدلات الفقر في العالم قد يزداد إلى ما بين الثلاث إلى خمس نقاط.
ووضع جيوجيل خمسة عوامل رأى أنها تساهم في ارتفاع أسعار الغذاء وهي:
1) إنتاج الوقود الحيوي.
2) ارتفاع تكاليف الوقود.
3) المناخ السيئ –أسوأ موجة جفاف- الذي أصاب أستراليا.
4) زيادة استهلاك الصين والهند من الحبوب واللحوم.
5) زيادة احتياطات الأموال المودعة في البنوك لمنع حدوث أزمة ائتمان اتجهت إلى التعاملات المالية
الآجلة المرتبطة بالأغذية –أي استخدمت في المضاربات-.
وعند التدقيق في هذه العوامل الخمسة نجد أن العوامل الأربعة الأولى منها غير صحيحة ولا تؤثر على ارتفاع الأسعار مطلقاً، فالأراضي الزراعية لو تم استغلال القليل منها في زراعة الحبوب ولو تم توزيعها بعدالة لكفت البشرية وزادت.
فليست المشكلة متعلقة بزيادة الإنتاج وإنما المشكلة متعلقة بسوء إدارة قطاع الزراعة واحتكار ذلك القطاع من قبل الشركات الرأسمالية الجشعة، وبسوء استخدام الأراضي الزراعية وبحرمان المزارعين من الأرباح، وبسوء بيع وتوزيع المحاصيل الزراعية، وبسياسات الاحتكار التي تمارسها الدول المنتجة.
فلو أُحسن استخدام القطاع الزراعي لما كان هناك أي تأثير لاستخدام الحبوب في الوقود الحيوي في ارتفاع الأسعار، وكذلك لما كان هناك أي تأثير في ارتفاع أسعار الوقود على أسعار الحبوب، ولو أحسن استخدام الأراضي لما كان هناك أي تأثير في حالة تعرض بعض المناطق الزراعية لجوائح أو لجفاف وكذلك لما نقص محصول الحبوب من جراء الزيادة في استهلاكه.
على أن تأثير هذه العوامل إن وجد فلا يعدو كونه ثانوياً، بينما التأثير الحقيقي لنقص الحبوب وارتفاع أسعاره يرجع إلى أسباب وعوامل أخرى.
أما العامل الخامس الذي ذكره جيوجيل وهو استخدام البنوك للاحتياطات المالية الخاصة بالحبوب في المضاربات فهذا بالفعل عامل حقيقي من عوامل ارتفاع أسعار الحبوب وبالتالي ارتفاع أسعار الغذاء وحدوث أزمة الغلاء، وقد قال الممثل الإقليمي لمنظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في أمريكا اللاتينية والكاريبي خوسيه جراتسيانو: "إن جوهر الأزمة هجوم هدفه المضاربة وسيستمر" وادعى بأن ذلك ليس "نظرية مؤامرة".
إن المضاربات لا شك بأنها عامل حقيقي في ارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة الغلاء العالمية وقد اعترف جراتسيانو في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة البرازيلية بذلك فقال: "إن المستثمرين ضاربوا في السلع الأولية ومنها القمح والذرة والأرز لأن المخزونات في السنوات الأخيرة قد انخفضت بسبب تزايد الطلب في الأسواق الصاعدة ونقص المعروض".
فالمضاربون إذاً باتوا يتعاملون مع الحبوب والأغذية كما يتعاملون مع أية سلع أخرى يضاربون عليها من قبيل النفط أو الذهب أو الماس أو غيرها من السلع المختلفة لأغراض الكسب السريع.
والذي جعل الحبوب عرضة للمضاربة هو رفع الدول الكبرى والمؤسسات العالمية الحماية عنها وإدماجها في سعر السوق واعتبارها كأية سلعة أخرى تخضع للعرض والطلب. وقد لمح جراتسيانو إلى هذا الاستنتاج بقوله: "إن غياب الثقة بالدولار الأمريكي جعل صناديق الاستثمار تبحث عن عوائد أعلى في السلع الأولية أولاً ثم في المعادن ثم في الأغذية".
ومن الأسباب الأخرى للمضاربة على الحبوب والمواد الغذائية تخفيض أمريكا لسعر صرف الدولار وهو الأمر الذي شجع المستثمرين على المضاربة في المواد الغذائية وهذا بدوره أدّى إلى رفع أسعارها.
إن الدول الصناعية الكبرى لا سيما الأوروبية منها تدرك منذ زمن بأن استمرار سير العالم في سياسات العولمة التي تشجعها أمريكا بكل إمكانياتها وثقلها وتخفيضات أسعار صرف الدولار المتتابعة ستؤدي بالضرورة إلى رفع أسعار السلع الغذائية الضرورية.
وقد صرَّح مسؤولون كبار يعملون في المؤسسات المالية الدولية وفي الدول الكبرى بذلك مراراً وتكراراً، فدعا رئيس البنك الدولي روبرت زوليك إلى تشكيل ما اسماه عقد غذائي جديد على المستوى العالمي لمواجهة ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية وذلك استناداً إلى صحيفة لوموند الفرنسية. وحذَّر زوليك وفقاً لما نقلته عنه صحيفة نيويورك تايمز من أن هناك"ثلاثاً وثلاثين دولة تقف على حافة بركان اجتماعي بسبب ارتفاع أسعار الغذاء".
وأما رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون فقد قال في رسالة أبرقها إلى نظيره الياباني الذي تترأس بلاده مجموعة الدول الثمانية الصناعية الكبرى "إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يهدد بإلغاء التقدم الذي حققناه في السنوات الماضية في مجال التنمية"، وشبَّه براون "أزمة الأسعار المرتفعة للأغذية بأزمة الائتمان العالمية وكلتاهما تنذران بإعادة الجهود التي بذلت للقضاء على الفقر إلى الوراء".
وأما وزيرة الدولة الفرنسية لحقوق الإنسان داما ياد فقد دعت الدول المانحة "إلى الاستجابة لنداء برنامج الأغذية العالمي لتخصيص 500 مليون دولار لمكافحة النقص في الغذاء".
لقد كانت الرأسمالية العالمية بنموذجها الأخير (العولمة) هي السبب الرئيس في هذه الأزمة، وكانت محركاتها الرئيسة المتمثلة في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين هي الأدوات التي استخدمت في التمهيد لاندلاع هذه الأزمة.
فاتفاقات التجارة الحرة التي فرضتها منظمة التجارة العالمية على البلدان الفقيرة (النامية)، وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وتدخلاتهما المتواصلة في سياسات تلك الدول المالية، قد تمخض عن تراكمها ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية لا يتوقع له العودة إلى المستويات السابقة للأسعار.
لقد كان هذا الارتفاع الجنوني للأسعار في الواقع ثمرة طبيعية لسياسات العولمة الرأسمالية وآليات السوق والتجارة الحرة إضافة إلى الأسواق المالية الكبرى وما يجري فيها من مضاربات تناولت كل السلع والمنتجات بما فيها المواد الغذائية الأساسية.
هذه هي الأسباب الحقيقية لأزمة الغلاء العالمية، وأما ما يشيعونه عن استخدام الحبوب في إنتاج الوقود الحيوي واعتبار ذلك سبباً رئيساً في الأزمة فهو غير دقيق، وأما الجدال حول هذه المسألة بين الدول الكبرى فمرده ليس إلى غلاء الأسعار وإنما مرده إلى التنافس بين تلك الدول على التحكم في أسعار الحبوب حيث أن أمريكا تحاول مستعينة بالبرازيل -وهي من أكبر منتجي الحبوب- أن تفرض هيمنتها وتحكمها في أسعار الحبوب على الدول الكبرى كما فعلت في أسعار النفط، وتحاول الدول الأخرى منع أمريكا من التحكم بالحبوب إنتاجاً وتسويقاً وتسعيراً لئلا تضر بمصالحها ونفوذها لدى الدول الفقيرة التابعة لها والتي ستضطر إلى شراء الحبوب بأسعار عالية وهذا يوجد عدم استقرار فيها الأمر الذي يضر بمصالح هذه الدول الكبرى لا سيما فرنسا وبريطانيا.
وأما ما يقال عن أثر تغير المناخ وزيادة الرفاهية في الصين والهند في ظهور هذه الأزمة فهذه عوامل تضليلية يتم إيرادها ذراً للرماد في العيون ولا مكان لها في ارتفاع الأسعار.
هذا بالنسبة لأسباب أزمة الغلاء، أما بالنسبة للحلول المتعلقة بها فإن ما تقترحه الدول والمؤسسات الرأسمالية من حلول لهذه الأزمة لا يعدو كونه حلولاً ترقيعية تسكينية لا تعالج جذورها الحقيقية وإنما تعالج مظاهرها فقط معالجة سطحية، بينما تؤدي هذه الحلول في نهاية المطاف إلى تقوية تبعية الدول الفقيرة بعجلة الدول الكبرى من خلال استغلال الفاقة والفقر لدى شعوب الدول الفقيرة في فرض الاستعمار والوصاية عليها.
لذلك كانت اقتراحات تلك الدول والمؤسسات كالمعزوفة النشاز وهي تتلخص في تقديم المساعدات المالية أو البذار أو السماد أو بعض التقنيات الزراعية البسيطة أو بعض البرامج الخبيثة المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالدول المانحة.
ومن هذا القبيل يأتي إعلان قمة الفاو التي انعقدت مؤخراً في روما في بيانها الختامي عن وعود بتقديم مساعدات بمقدار 6.5 مليار دولار لمعالجة الفقر، ومن الجدير بالذكر أن منظمة الفاو نفسها كانت قد وعدت في مؤتمرها الذي عقد في العام 2002م بتخفيض عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية إلى النصف بحلول العام 2015م على أبعد تقدير، والنتيجة التي نراها اليوم تدل على عكس ما وعدت به الفاو تماماً.
إن مثل هذه الحلول التي جُرِّبت على البلدان الفقيرة في القرن الماضي لم تجلب للشعوب سوى المزيد من الشقاء والفقر والتبعية والتخلف وانتشار الأوبئة وتكريس الأُمية والجهل ونشر الحروب الأهلية وتدمير البنى التحتية لتلك البلدان تدميراً تاماً.
فنتائج هذه الحلول باتت معروفة سلفاً وهي تفاقم المشكلة ولا تعالجها، لذلك كان لزاماً على الشعوب الوعي عليها وإدراك مخاطرها ورفضها وعدم الانسياق إلى متاهاتها.
إن الحل الحقيقي الشافي لمثل هذه الأزمة لا يمكن أن يتحقق إلا بانعتاق الدول الفقيرة من تبعية الدول الكبرى انعتاقاً تاماً. وهذا الانعتاق يقتضي أن يكون بالدرجة الأولى فكرياً بمعنى أن ترفض الدول الفقيرة رفضاً كاملاً التعامل مع النظام الرأسمالي ومؤسساته، وأن تقوم بقطع علاقاتها كلياً مع المؤسسات المالية والربوية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وأن توقف جميع النشاطات الداخلية والخارجية لتعاملاتها في الأسواق المالية وأن تسحب فوراً جميع ودائعها المالية –إن استطاعت- من البنوك الأجنبية، وأن تضع أحكام النظام الاقتصادي الإسلامي موضع التطبيق وفي مقدمة هذه الأحكام تحويل النفط إلى ملكية عامة وتمكين المزارعين من عمارة الأراضي وإحيائها وتحجيرها وإحاطتها، وأن ترعى الدولة بنفسها مباشرة ثورة زراعية توجد اكتفاءً ذاتياً في البلد الذي يريد الانعتاق، وأن تثبت الدولة عملتها بربطها بالغطاء المعدني الذهبي والفضي.
بمثل هذه الإجراءات وهذه الحلول الاقتصادية الإسلامية فقط تستطيع الدول الخروج من هذه الأزمة العالمية والتي لا يمكن أن تنجح من ناحية عملية إلا إذا واكبتها إجراءات وحلول سياسية جنباً إلى جنب، ومن هذه الحلول مواجهة النفوذ الغربي السياسي وبالذات الأمريكي وإخراجه من هذه البلدان وملاحقته في عقر داره والتضييق عليه ومن ثم القضاء عليه قضاءً مبرماً.
إن هذه الحلول الشافية (اقتصادياً وسياسياً) تقتضي إيجاد قيادة سياسية مبدئية توجه دفة دولة إسلامية حقيقية تقوم بتحويل الدول الهشة القائمة في العالم اليوم بالضم والتوحيد إلى دولة الإسلام الكبرى التي تقود البشرية قيادة عدل ورحمة وتقطع دابر الدول الرأسمالية الاستعمارية التي زرعت الفساد في الأرض لمدة زمنية طويلة وقد حان أوان رحيلها.
–الأسباب والحلول-
إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأساسية عالمياً قد أوجد أزمة غلاء حادة استشرت في معظم بقاع العالم، وأثرت على الطبقات الفقيرة والدنيا في سائر المجتمعات.
وهذه الأزمة ليست مجرد سحابة صيف عابرة بل إنها مرشحة للاستمرار والبقاء لسنوات طويلة أو ربما لعقود قادمة. وإطلاق وصف (تسونامي اقتصادي إنساني) عليها من قبل المفوض الأوروبي للتنمية لوي ميشيل، إطلاقه لهذا الوصف عليها فيه شيء من الحقيقة، فقد نجم عنها اضطرابات واحتجاجات عارمة شملت دولاً في القارات الخمس، ولذلك فإن هذه الأزمة بدأت تأخذ منحنىً تصاعدياً مضطرداً في مختلف دول العالم.
وليس من باب الصدفة أن يتحدث مدير إدارة خفض الفقر في البنك الدولي مارسيلو جيوجيل عن أن تضاعف أسعار المواد الغذائية في السنوات الثلاث الأخيرة قد يهوي بمائة مليون شخص في أنحاء العالم إلى أعماق الفقر وأن معدلات الفقر في العالم قد يزداد إلى ما بين الثلاث إلى خمس نقاط.
ووضع جيوجيل خمسة عوامل رأى أنها تساهم في ارتفاع أسعار الغذاء وهي:
1) إنتاج الوقود الحيوي.
2) ارتفاع تكاليف الوقود.
3) المناخ السيئ –أسوأ موجة جفاف- الذي أصاب أستراليا.
4) زيادة استهلاك الصين والهند من الحبوب واللحوم.
5) زيادة احتياطات الأموال المودعة في البنوك لمنع حدوث أزمة ائتمان اتجهت إلى التعاملات المالية
الآجلة المرتبطة بالأغذية –أي استخدمت في المضاربات-.
وعند التدقيق في هذه العوامل الخمسة نجد أن العوامل الأربعة الأولى منها غير صحيحة ولا تؤثر على ارتفاع الأسعار مطلقاً، فالأراضي الزراعية لو تم استغلال القليل منها في زراعة الحبوب ولو تم توزيعها بعدالة لكفت البشرية وزادت.
فليست المشكلة متعلقة بزيادة الإنتاج وإنما المشكلة متعلقة بسوء إدارة قطاع الزراعة واحتكار ذلك القطاع من قبل الشركات الرأسمالية الجشعة، وبسوء استخدام الأراضي الزراعية وبحرمان المزارعين من الأرباح، وبسوء بيع وتوزيع المحاصيل الزراعية، وبسياسات الاحتكار التي تمارسها الدول المنتجة.
فلو أُحسن استخدام القطاع الزراعي لما كان هناك أي تأثير لاستخدام الحبوب في الوقود الحيوي في ارتفاع الأسعار، وكذلك لما كان هناك أي تأثير في ارتفاع أسعار الوقود على أسعار الحبوب، ولو أحسن استخدام الأراضي لما كان هناك أي تأثير في حالة تعرض بعض المناطق الزراعية لجوائح أو لجفاف وكذلك لما نقص محصول الحبوب من جراء الزيادة في استهلاكه.
على أن تأثير هذه العوامل إن وجد فلا يعدو كونه ثانوياً، بينما التأثير الحقيقي لنقص الحبوب وارتفاع أسعاره يرجع إلى أسباب وعوامل أخرى.
أما العامل الخامس الذي ذكره جيوجيل وهو استخدام البنوك للاحتياطات المالية الخاصة بالحبوب في المضاربات فهذا بالفعل عامل حقيقي من عوامل ارتفاع أسعار الحبوب وبالتالي ارتفاع أسعار الغذاء وحدوث أزمة الغلاء، وقد قال الممثل الإقليمي لمنظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في أمريكا اللاتينية والكاريبي خوسيه جراتسيانو: "إن جوهر الأزمة هجوم هدفه المضاربة وسيستمر" وادعى بأن ذلك ليس "نظرية مؤامرة".
إن المضاربات لا شك بأنها عامل حقيقي في ارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة الغلاء العالمية وقد اعترف جراتسيانو في مؤتمر صحفي عقده في العاصمة البرازيلية بذلك فقال: "إن المستثمرين ضاربوا في السلع الأولية ومنها القمح والذرة والأرز لأن المخزونات في السنوات الأخيرة قد انخفضت بسبب تزايد الطلب في الأسواق الصاعدة ونقص المعروض".
فالمضاربون إذاً باتوا يتعاملون مع الحبوب والأغذية كما يتعاملون مع أية سلع أخرى يضاربون عليها من قبيل النفط أو الذهب أو الماس أو غيرها من السلع المختلفة لأغراض الكسب السريع.
والذي جعل الحبوب عرضة للمضاربة هو رفع الدول الكبرى والمؤسسات العالمية الحماية عنها وإدماجها في سعر السوق واعتبارها كأية سلعة أخرى تخضع للعرض والطلب. وقد لمح جراتسيانو إلى هذا الاستنتاج بقوله: "إن غياب الثقة بالدولار الأمريكي جعل صناديق الاستثمار تبحث عن عوائد أعلى في السلع الأولية أولاً ثم في المعادن ثم في الأغذية".
ومن الأسباب الأخرى للمضاربة على الحبوب والمواد الغذائية تخفيض أمريكا لسعر صرف الدولار وهو الأمر الذي شجع المستثمرين على المضاربة في المواد الغذائية وهذا بدوره أدّى إلى رفع أسعارها.
إن الدول الصناعية الكبرى لا سيما الأوروبية منها تدرك منذ زمن بأن استمرار سير العالم في سياسات العولمة التي تشجعها أمريكا بكل إمكانياتها وثقلها وتخفيضات أسعار صرف الدولار المتتابعة ستؤدي بالضرورة إلى رفع أسعار السلع الغذائية الضرورية.
وقد صرَّح مسؤولون كبار يعملون في المؤسسات المالية الدولية وفي الدول الكبرى بذلك مراراً وتكراراً، فدعا رئيس البنك الدولي روبرت زوليك إلى تشكيل ما اسماه عقد غذائي جديد على المستوى العالمي لمواجهة ارتفاع أسعار المحاصيل الزراعية وذلك استناداً إلى صحيفة لوموند الفرنسية. وحذَّر زوليك وفقاً لما نقلته عنه صحيفة نيويورك تايمز من أن هناك"ثلاثاً وثلاثين دولة تقف على حافة بركان اجتماعي بسبب ارتفاع أسعار الغذاء".
وأما رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون فقد قال في رسالة أبرقها إلى نظيره الياباني الذي تترأس بلاده مجموعة الدول الثمانية الصناعية الكبرى "إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يهدد بإلغاء التقدم الذي حققناه في السنوات الماضية في مجال التنمية"، وشبَّه براون "أزمة الأسعار المرتفعة للأغذية بأزمة الائتمان العالمية وكلتاهما تنذران بإعادة الجهود التي بذلت للقضاء على الفقر إلى الوراء".
وأما وزيرة الدولة الفرنسية لحقوق الإنسان داما ياد فقد دعت الدول المانحة "إلى الاستجابة لنداء برنامج الأغذية العالمي لتخصيص 500 مليون دولار لمكافحة النقص في الغذاء".
لقد كانت الرأسمالية العالمية بنموذجها الأخير (العولمة) هي السبب الرئيس في هذه الأزمة، وكانت محركاتها الرئيسة المتمثلة في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين هي الأدوات التي استخدمت في التمهيد لاندلاع هذه الأزمة.
فاتفاقات التجارة الحرة التي فرضتها منظمة التجارة العالمية على البلدان الفقيرة (النامية)، وإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وتدخلاتهما المتواصلة في سياسات تلك الدول المالية، قد تمخض عن تراكمها ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية لا يتوقع له العودة إلى المستويات السابقة للأسعار.
لقد كان هذا الارتفاع الجنوني للأسعار في الواقع ثمرة طبيعية لسياسات العولمة الرأسمالية وآليات السوق والتجارة الحرة إضافة إلى الأسواق المالية الكبرى وما يجري فيها من مضاربات تناولت كل السلع والمنتجات بما فيها المواد الغذائية الأساسية.
هذه هي الأسباب الحقيقية لأزمة الغلاء العالمية، وأما ما يشيعونه عن استخدام الحبوب في إنتاج الوقود الحيوي واعتبار ذلك سبباً رئيساً في الأزمة فهو غير دقيق، وأما الجدال حول هذه المسألة بين الدول الكبرى فمرده ليس إلى غلاء الأسعار وإنما مرده إلى التنافس بين تلك الدول على التحكم في أسعار الحبوب حيث أن أمريكا تحاول مستعينة بالبرازيل -وهي من أكبر منتجي الحبوب- أن تفرض هيمنتها وتحكمها في أسعار الحبوب على الدول الكبرى كما فعلت في أسعار النفط، وتحاول الدول الأخرى منع أمريكا من التحكم بالحبوب إنتاجاً وتسويقاً وتسعيراً لئلا تضر بمصالحها ونفوذها لدى الدول الفقيرة التابعة لها والتي ستضطر إلى شراء الحبوب بأسعار عالية وهذا يوجد عدم استقرار فيها الأمر الذي يضر بمصالح هذه الدول الكبرى لا سيما فرنسا وبريطانيا.
وأما ما يقال عن أثر تغير المناخ وزيادة الرفاهية في الصين والهند في ظهور هذه الأزمة فهذه عوامل تضليلية يتم إيرادها ذراً للرماد في العيون ولا مكان لها في ارتفاع الأسعار.
هذا بالنسبة لأسباب أزمة الغلاء، أما بالنسبة للحلول المتعلقة بها فإن ما تقترحه الدول والمؤسسات الرأسمالية من حلول لهذه الأزمة لا يعدو كونه حلولاً ترقيعية تسكينية لا تعالج جذورها الحقيقية وإنما تعالج مظاهرها فقط معالجة سطحية، بينما تؤدي هذه الحلول في نهاية المطاف إلى تقوية تبعية الدول الفقيرة بعجلة الدول الكبرى من خلال استغلال الفاقة والفقر لدى شعوب الدول الفقيرة في فرض الاستعمار والوصاية عليها.
لذلك كانت اقتراحات تلك الدول والمؤسسات كالمعزوفة النشاز وهي تتلخص في تقديم المساعدات المالية أو البذار أو السماد أو بعض التقنيات الزراعية البسيطة أو بعض البرامج الخبيثة المرتبطة ارتباطاً عضوياً بالدول المانحة.
ومن هذا القبيل يأتي إعلان قمة الفاو التي انعقدت مؤخراً في روما في بيانها الختامي عن وعود بتقديم مساعدات بمقدار 6.5 مليار دولار لمعالجة الفقر، ومن الجدير بالذكر أن منظمة الفاو نفسها كانت قد وعدت في مؤتمرها الذي عقد في العام 2002م بتخفيض عدد الأشخاص الذين يعانون من سوء التغذية إلى النصف بحلول العام 2015م على أبعد تقدير، والنتيجة التي نراها اليوم تدل على عكس ما وعدت به الفاو تماماً.
إن مثل هذه الحلول التي جُرِّبت على البلدان الفقيرة في القرن الماضي لم تجلب للشعوب سوى المزيد من الشقاء والفقر والتبعية والتخلف وانتشار الأوبئة وتكريس الأُمية والجهل ونشر الحروب الأهلية وتدمير البنى التحتية لتلك البلدان تدميراً تاماً.
فنتائج هذه الحلول باتت معروفة سلفاً وهي تفاقم المشكلة ولا تعالجها، لذلك كان لزاماً على الشعوب الوعي عليها وإدراك مخاطرها ورفضها وعدم الانسياق إلى متاهاتها.
إن الحل الحقيقي الشافي لمثل هذه الأزمة لا يمكن أن يتحقق إلا بانعتاق الدول الفقيرة من تبعية الدول الكبرى انعتاقاً تاماً. وهذا الانعتاق يقتضي أن يكون بالدرجة الأولى فكرياً بمعنى أن ترفض الدول الفقيرة رفضاً كاملاً التعامل مع النظام الرأسمالي ومؤسساته، وأن تقوم بقطع علاقاتها كلياً مع المؤسسات المالية والربوية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية، وأن توقف جميع النشاطات الداخلية والخارجية لتعاملاتها في الأسواق المالية وأن تسحب فوراً جميع ودائعها المالية –إن استطاعت- من البنوك الأجنبية، وأن تضع أحكام النظام الاقتصادي الإسلامي موضع التطبيق وفي مقدمة هذه الأحكام تحويل النفط إلى ملكية عامة وتمكين المزارعين من عمارة الأراضي وإحيائها وتحجيرها وإحاطتها، وأن ترعى الدولة بنفسها مباشرة ثورة زراعية توجد اكتفاءً ذاتياً في البلد الذي يريد الانعتاق، وأن تثبت الدولة عملتها بربطها بالغطاء المعدني الذهبي والفضي.
بمثل هذه الإجراءات وهذه الحلول الاقتصادية الإسلامية فقط تستطيع الدول الخروج من هذه الأزمة العالمية والتي لا يمكن أن تنجح من ناحية عملية إلا إذا واكبتها إجراءات وحلول سياسية جنباً إلى جنب، ومن هذه الحلول مواجهة النفوذ الغربي السياسي وبالذات الأمريكي وإخراجه من هذه البلدان وملاحقته في عقر داره والتضييق عليه ومن ثم القضاء عليه قضاءً مبرماً.
إن هذه الحلول الشافية (اقتصادياً وسياسياً) تقتضي إيجاد قيادة سياسية مبدئية توجه دفة دولة إسلامية حقيقية تقوم بتحويل الدول الهشة القائمة في العالم اليوم بالضم والتوحيد إلى دولة الإسلام الكبرى التي تقود البشرية قيادة عدل ورحمة وتقطع دابر الدول الرأسمالية الاستعمارية التي زرعت الفساد في الأرض لمدة زمنية طويلة وقد حان أوان رحيلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق