الأربعاء، 4 يونيو 2008

فلسطين

فلسطين

من المعروف أن أميركا ومنذ العام 1947م وحتى الساعة وهي تتبنى بلا تردد فكرة إقامة الدولة الفلسطينية المنفصلة إلى جانب الدولة اليهودية في فلسطين.
فأميركا هي القوة الرئيسية التي وقفت وراء قرار التقسيم الشهير الذي حمل الرقم 181 والذي صدر في العام 1947م ودعا إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين. وفي العام 1948م طالب جيوسوب مندوب أميركا لدى مجلس الأمن صراحة بإقامة دولة فلسطينية في وقت لم يكن أحد من الأوروبيين أو العرب أو الفلسطينيين يطالب بها بمثل هذا الوضوح.
فإقامة دولة فلسطينية إذاً كانت وما زالت الاستراتيجية الثابتة التي التزمتها أميركا في الستين سنة الماضية من عمر القضية الفلسطينية بمختلف إداراتها، لا فرق بين إدارات جمهورية أو ديمقراطية.
لقد صارعت الدبلوماسية الأميركية طويلاً الدبلوماسية البريطانية الممانعة في هذه المسألة حتى تمكنت من التغلب عليها مع نهاية الثمانينات من القرن الماضي. ذلك عندما أعلن عرفات في مؤتمري الجزائر وستراسبورغ في العام 1988م عن تخليه عن حلم إقامة الدولة العلمانية وقبوله بقرار 242 المبني على جميع القرارات الدولية والتي يعود أصلها إلى القرار 181 الذي يقسم فلسطين بين دولتين يهودية وعربية. ولقد ذهب هذا الصراع بأناس كثيرون، فقد قتل الملك عبد الله وقتل رياض الصلح في أسبوع واحد بسبب الدولة الفلسطينية.
كما قتل رؤساء وزراء أردنيون لنفس السبب إلى أن رضخ الملك حسين الذي أخيراً للضغط الأميركي ووافق على فكرة الدولة الفلسطينية الحاجزة بين الكيان اليهودي والكيان الأردني، وكان يمثل أكبر عقبة في طريق إقامة الدولة الفلسطينية وذلك بعد أن تخلى عرفات عن فكرة الدولة العلمانية، وقام تحت الضغط أيضاً بالفصل الإداري والقانوني للضفة الغربية ليُمهِّد بذلك الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية عليها، كما رضخت إسرائيل لفكرة الدولة الفلسطينية بعد أن كانت ترفضها بشدة، بل إنها كانت لا تعترف أصلاً بوجود شعب فلسطيني.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو إذا كان الإنجليز وعملاؤهم وزعماء دولة يهود قد قبلوا بفكرة الدولة الفلسطينية بعد العام 1988م فما الذي حال دون إقامتها منذ ذلك الوقت حتى الآن؟؟
والجواب على ذلك يكمن في صعوبة تطبيقها على أرض الواقع، ومرد هذه الصعوبة يعود إلى أمرين:

1) عجز زعماء اليهود عن إقناع الشعب اليهودي بفكرة التخلي عما يسمونه –بأرض إسرائيل-.
2) عجز زعماء الفلسطينيين عن إقناع أهل فلسطين والعرب والمسلمين بالتخلي عما أسموه بالثوابت التي طُلب منهم التخلي عن بعضها كمسائل –القدس واللاجئين والحدود-.
وبسبب هذين الأمرين فشل مؤتمر كامب ديفيد2 واندلعت الانتفاضة المسلحة سنة 2000م وبدأت عمليات ترويض الفلسطينيين.
وها قد مضى الآن سبعة أعوام على الانتفاضة وعلى وجود إدارة بوش في الحكم، ولم تستطع تلك الإدارة أن تصنع شيئاً لتحريك العملية (السلمية)، فضلاً عن انشغالها بمشاكل العراق وأفغانستان، وكعادة كل رئيس أميركي يحاول حل المشكلة الفلسطينية أو حلحلتها في آخر فترة رئاسته حيث يكون متحرراً نوعاً ما من ضغوط اللوبي اليهودي وضغوط اللوبيات اليمينية المتحالفة معه.
ومن هنا أعلن بوش عن مؤتمر الخريف في (أنابوليس) في ميريلاند بالقرب من واشنطن ليجرب حظه في حل هذه القضية، وليرفع من أسهم حزبه في الانتخابات القادمة.
وأما موقف الأطراف المحلية والإقليمية من دعوة بوش فهي لم تخرج عن المألوف، فمحمود عباس وأقطاب سلطته متهالكون على أي شيء تمنحهم إياه أميركا لأن وضعهم الذي هم عليه الآن لا يسمح لهم بالمناورة، فهم مضطرون لقبول أي شيء ولو كان وعوداً كلامية فقد رهنوا أنفسهم منذ تآمروا على عرفات لإملاءات السياسة الأميركية.
وقد قدَّم عباس في آخر اجتماع له مع أولمرت ملصقاً يحمل أعلام 50 دولة عربية ومسلمة وقال له: "إن السلطة تأمل بالتوصل إلى اتفاق للسلام مع الإسرائيليين يقود إلى سلام مع كل هذه الدول"(الشرق الأوسط/27/10/2007).
وقد قطع شوطاً كبيراً في المرحلة الأولى من خارطة الطريق التي كانت إسرائيل دائماً تتذرع بعدم قدرة الفلسطينيين على تطبيقها وهي محاربة (الإرهاب) والعنف، وتفكيك الفصائل المسلحة، والتنسيق الأمني الكامل مع قوات الاحتلال والأجهزة الأمنية الإسرائيلية المتعددة.
ومن أجل إقناع الرأي العام الإسرائيلي قامت حكومة فياض بإسقاط الكفاح المسلح من برنامجها. قال أشرف العجرمي وزير شؤون الأسرى في حكومة فياض لوكالة رويترز: "إن الحكومة واضحة جداً في هذا البرنامج فيما يتعلق بضرورة انتهاء المقاومة المسلحة لأنها ليست لها صلة بإقامة الدولة، فالمقاومة المسلحة والنضال المسلح لم يرد لهما ذكر في برنامج الحكومة" (الجزيرة نت- 28/7/2007م). وقال نمر حماد مستشار محمود عباس: "إن هناك عملية سلام ونضالاً قومياً يمكن أن يكون من خلال وسائل سلمية وليس عبر الصواريخ والفوضى"(الجزيرة نت/28/7/2007م)..
وقد ظهر قائد كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح زكريا الزبيدي على شاشات التلفزيون وهو يلقي سلاحه ويقول: "إن مقاتلي الكتائب وقَّعوا على تعهد بوقف الهجمات ضد إسرائيل والانخراط في أجهزة الأمن الفلسطينية"(الجزيرة توك/ 15/7/2007م)..
وأما التنسيق الأمني فإنه يتم على أعلى المستويات من خلال اجتماع كبار الضباط الفلسطينيين مع الضباط الإسرائيليين، ومن خلال المنسق الأمني الأميركي كينيت دايتون. وكبادرة حسنة منه لليهود قدَّم محمود عباس زيادة على هذه المطالب الأمنية استعداداً واضحاً للتنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين فقال لصحيفة معاريف الإسرائيلية: "لا توجد قوة في العالم بإمكانها إلزام إسرائيل بإعادة ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيها، فمشكلة اللاجئين هذه يجب أن تحل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي عن طريق إيجاد حل خلاق لها"(القدس العربي 29/7/2007).
فمحمود عباس وسلطته إذاً لَبّوا جميع الاشتراطات الإسرائيلية، بل وقدَّموا زيادة عليها.لكن الأمر لا يتعلق بالسلطة فقط، فهناك أمور أخر، وأطراف آخرين.
فإسرائيل في ظل حكومة أولمرت غير قادرة كما في ظل أي حكومة أخرى على الانسحاب من الضفة لأسباب أيديولوجية. لذلك فهي تتعلل بأتفه الأسباب، وتتذرع بأوهى الحجج للتهرب من استحقاقاتها.
ومن أحدث ما بدأت تُروِّج له من أسباب وحجج اعتبار مجرد وجود حماس في غزة يشكل خطراً على أمن إسرائيل كما يدعي وزير حرب إسرائيل إيهود باراك الذي قال لصحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية: "إن التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين فكرة خيالية وإن إسرائيل لن تنسحب من الضفة قبل إيجاد حل لهجمات الصواريخ وهو يستغرق ما بين ثلاث إلى خمس سنوات" (العربية نت – 10/8/2007م) والذي كرر مثل هذه التصريحات عدة مرات مؤخراً. فأقصى ما يمكن أن يُقدِّمه رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت هو الموافقة على إعلان مبادئ ضبابي غير ملزم كما تقول الصحف الإسرائيلية، لذلك لم يكن غريباً أن يقول أولمرت إن المفاوضات تستغرق من 20 إلى 30 عاماً.
وأما إدارة بوش فهي تعلم أن مؤتمر الخريف (أنابوليس) لا يمكن أن ينتج عنه شيئاً جدياً، لذلك لم يكن مستغرباً أن تقول كونداليزا رايس لمحمود عباس: "إننا نريد اتفاقاً عاماً يتحدث عن دولة مستقلة من دون ذكر الحدود، وعن إقامة عاصمة لهذه الدولة في الأحياء العربية في القدس من دون ذكر القدس، وعن عدم ذكر موضوع اللاجئين"(الشرق الأوسط-19/10/2007م)..
وأضافت رايس موبخةً إياه: "نحن في إدارة بوش نحاول مساعدتكم على إقامة الدولة الفلسطينية بكل قوتنا وفقاً للمعطيات الناشئة في المنطقة. فإذا كنتم تحلمون بتحصيل كل مطالبكم خلال مؤتمر من يومين في أنابوليس ومفاوضات سياسية من عدة أسابيع، فهذه أوهام لا نستطيع أن نكون شركاء معكم فيها"(الشرق الأوسط – 19/10/2007م).
فواضح من كلام رايس أن مؤتمر الخريف هو مؤتمر تسكين وترويض للعرب والفلسطينيين ولن يؤدي إلى أية نتيجة حقيقية، ولكن إدارة بوش تريد تحقيق أهداف أخرى من المؤتمر ومن أهمها زيادة شقة العداء بين من تسميهم بمعسكر المعتدلين ومعسكر المتطرفين وقد صرحت رايس بذلك علانية فقالت: "القصد من الاجتماع (المؤتمر) هو تعزيز موقع المعتدلين في مواجهة المتطرفين المعارضين لأي تسوية مع إسرائيل" (الجزيرة نت – 25/10/2007م).
والحقيقة التي من المؤكد أن الأميركيين يدركونها جيداً أن مؤتمراً لا يعطي (للمعتدلين) شيئاً لا يسهم قطعاً في تعزيز موقعهم بل على العكس من ذلك فإنه يسهم في إضعافهم.
وبالنسبة لأميركا فهذا هو المطلوب، وهذا ما تريده بالضبط من المؤتمر، وهو إضعاف أو حتى حرق (المعتدلين) أمام شعوبهم وتقوية من تسميهم (بالمتطرفين). فالشيء الوحيد المتفق عليه في هذا المؤتمر هو إقامة الدولة الفلسطينية، وهو الهدف الذي لا تتخلى عنه أميركا أبداً.
ولكن تحقيق هذا الهدف لا يبدو أنه ممكن أن يتحقق بدون حروب ولو تحريكية. وكيف يُعقل أن أميركا تريد الآن إقامة الدولة الفلسطينية بينما تسمح لإسرائيل بالاستمرار في بناء الجدار الذي يبتلع أكثر من 30% من أراضي الضفة، وتستمر في بناء المستوطنات، وفي تهويد القدس، وفي عدم إزالة حتى مجرد الحواجز التي تتزايد أعدادها بدلاً من نقصانها؟؟!!.
ويبدو أن من أهم أهداف أميركا في هذا المؤتمر هو إضعاف محمود عباس وحكام مصر والأردن والسعودية والذين تضغط أميركا عليهم للمشاركة في المؤتمر والتطبيع مع إسرائيل.
صحيح أن الإدارة الأميركية تريد من كل الدول والأطراف ذات الصلة بالقضية الفلسطينية أن تعترف بإسرائيل لكنها لا تريد من هذه الدول أن تعترف مجاناً بها من دون ثمن.
لذلك نجد أن الإخوان المسلمين وحماس وسوريا يطرحون فكرة الاعتراف مقابل الانسحاب وهي فكرة واقعية وفيها قابلية الإقناع للشعوب، بخلاف فكرة الاعتراف والتطبيع بدون انسحاب التي تسير فيها الدول (المعتدلة) بكل سذاجة.
فالإخوان المسلمون قد فهموا الرسالة وبدؤا بتحضير أنفسهم للمستقبل وقال أحد أقطابهم في مصر وهو عصام العريان: "الإخوان في حال وصولهم إلى الحكم سيعترفون بإسرائيل وسيحترمون المعاهدات""(موقع الصريح – 19/10/2007م)، وأما منعم أبو الفتوح القيادي في الإخوان فسبق العريان وقال لرويترز: "إن موقف الإخوان المسلمين من القضية الفلسطينية هو أننا لسنا ضد اليهود وهدفنا ليس القضاء على اليهود لا في داخل فلسطين ولا في خارج فلسطين، وإن المجتمع الدولي يجب أن يعمل على تكوين دولتين فلسطينية وإسرائيلية كحل مؤقت، ثم يمكن بعد ذلك تأسيس دولة علمانية ثنائية القومية يتداول اليهود والمسلمون والمسيحيون على قيادتها كحل نهائي"(القدس العربي- 22/4/2007م).
فمن عنده مثل هذا التصور لا يستبعد عليه أن يسير في المشاريع الأميركية بسهولة، خاصة والكل يعرف أن فكرة الدولة العلمانية التي يتحدث عنها العريان قد تم إسقاطها من السياسة الدولية حتى عند من كانوا يتبنونها.
والاتصالات مع حماس لم تنقطع مع الأوروبيين والأميركيين وذلك وفقاً لتصريحات مسؤولون في الحركة. وفكرة قبول حماس بإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة متداولة منذ أيام أحمد ياسين، وتوقيع هدنة طويلة الأجل مع إسرائيل هي الفكرة الأكثر عملية من غيرها بالنسبة للمسلمين والفلسطينيين.
وتطبيق هذه الفكرة يمكن أن يكون تدريجياً من خلال دولة فلسطينية مؤقتة وافقت حماس عليها على لسان مستشار هنية أحمد يوسف، بينما رفضها محمود عباس.
فإمكانية حل الصراع العربي الإسرائيلي من وجهة النظر الأميركية بإقامة الدولة الفلسطينية لا يمكن تحقيقه من خلال أطراف ضعيفة كسلطة عباس وكالدول (المعتدلة) الهزيلة كمصر والأردن وغيرها، وتطبيقه فقط يمكن أن يتحقق من خلال حروب وجولات من الصراع تشترك فيها سوريا وإيران وحماس وحزب الله والذين تسميهم أميركا بالمتطرفين.
وحتى تزيد من قوة هؤلاء (المتطرفين) فلا بد من زيادة إضعاف (المعتدلين) وانتهاء أدوارهم بشكل تدريجي. ووصف (المتطرفين) اليوم لا يعني عدم التعامل معهم غداً، فالاتصالات معهم مستمرة على قدم وساق كما هو حاصل بين أميركا وإيران، وبين أميركا وسوريا وحتى بين أميركا وحماس. يقول موسى أبو مرزوق نائب رئيس حركة حماس للشرق الأوسط: "لا يوجد سياسة لدينا تحظر اللقاء مع الأميركيين والأوروبيين، بل نحن نرحب باللقاءات معهم، ولا ننكر دور الولايات المتحدة في المنطقة وإن كنا نخالفها الرأي، ونحن لا نرفض اللقاءات مع السياسيين الأميركيين، ولكن الأميركيين يستخدمون غيرهم لتوصيل رسائل إلينا، واستجلاب إجابات لأسئلة، لأن القانون الأميركي يمنعهم من اللقاءات المباشرة مع حماس"(موقع مدونات مكتوب 21/10/2007م).
فحماس تنتظر دورها في الحل على أحر من الجمر بعد انتهاء دور محمود عباس، وهي تعرف أن دورها لم يحن بعد وإن كانت تدرك أن الغرب وعلى رأسه أميركا يحتاج إليها في المستقبل.
وأما الدور الأوروبي وبشكل خاص البريطاني في المسألة الفلسطينية فمن الواضح أنه بخلاف المسائل الأخرى فإنه لا يرتقي إلى أكثر من دور تكميلي لما تريده الإدارة الأميركية.
فبريطانيا وأوروبا وروسيا وسائر القوى الكبرى تدرك جيداً أن المسألة الفلسطينية هي حكر على أميركا لأن إسرائيل وهي الدولة الرئيسية فيها لا تستطيع أن تخرج عن الإرادة الأميركية قيد أنملة في أي تحرك أو تصرف بعد اتفاقية أسلو.