العلاقات والمتغيرات الدولية
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي الحالي، ومع تسلم إدارة بوش للحكم في أمريكا تغيرت العلاقات الدولية وتحولت من سياسة المشاركة والتعددية إلى سياسة القطبية الأحادية. وبعد أحداث الحادي عشر من سيبتمبر 2001م اتضحت هذه السياسة وتبلورت وأصبحت واقعاً محسوساً سلَّم به المؤثرون في السياسة الدولية جميعاً.
لقد أثبتت هذه السياسة الأحادية فاعليتها في حربي أفغانستان والعراق بشكل خاص، وطغت على المشاكل السياسية الدولية التي ظهرت في مناطق عديدة من العالم فيما بعد وتم التخلي عن التعددية القطبية تماماً.
لقد كانت السياسة العالمية في التسعينات من القرن الماضي تتسم بالمشاركة والتعددية بالفعل، فعلى سبيل المثال كانت إدارة كلينتون تقبل بمشاركة روسيا ومجموعة دول الاتصال في حل مشكلة البوسنة وإن كانت الإدارة الأميركية تترأس المجموعة الدولية وكان لها التأثير الأكبر في القرارات فيها، إلا أنه كان واضحاً أن لبريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى إيطاليا تأثير ما في المشكلة البلقانية وإن كان أقل من التأثير الأمريكي.
ومن الأمثلة الأخرى في حقبة التسعينات والتي كانت تدلل على سياسة المشاركة والتعددية اشتراك فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى جانب أمريكا في مؤتمر شرم الشيخ في أواسط التسعينات لوضع الحلول لمشاكل الشرق الأوسط. ومن الأمثلة أيضاً مشاركة أمريكا لروسيا وبريطانيا في سياسة تجريد دول أوروبا الشرقية من الترسانة النووية.
ومع بدايات القرن الميلادي الحالي وتسلم إدارة بوش الحكم فقد أُسدل الستار على مثل هذه المشاركات والتعددية الدولية فاختفت وتلاشت ولم نعد نرى أي تشارك في حل المشاكل الدولية، ولم نعد نلاحظ حتى مجرد وجود تنسيق لمواقف الدول الكبرى مع الولايات المتحدة. إذاً فإدارة بوش هي التي أرست أسس سياسة القطبية الأحادية والتفرد في القرارات الدولية ولم تفعل ذلك الإدارات التي سبقتها وإن فكرت بها.
قد يقال إن الرباعية الدولية الخاصة بحل القضية الفلسطينية هي نوع من المشاركة السياسية للقوى العظمى، قد يقال ذلك إلا أن الصحيح أن هناك فرق كبير بين (الرباعية الدولية) التي وضعت خطة خارطة الطريق وبين التعددية الدولية التي كانت السياسة الدولية الرائجة في التسعينيات من القرن الماضي. فالرباعية الدولية على سبيل المثال قد استثنت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأتت فقط بالاتحاد الأوروبي الذي لا يمتلك أي قرار كونه لا يعبر عن دولة بعينها من دول الاتحاد وفي هذا إضعاف كبير للدول الأوروبية الكبرى. وأما إشراك روسيا في الرباعية الدولية فلا يعني وجود (تعددية دولية) لأن روسيا لا تملك في الأصل نفوذاً في منطقة الشرق الأوسط وبالتالي فلا تأثير فعلياً لها بالمشاركة. وأما إشراك الأمم المتحدة في الرباعية فإنه لا يعدو كونه إشراكاً شكلياً يضفي الصبغة الدولية على سياسات الولايات المتحدة الفاقدة أصلاً للشرعية الدولية.
وقد يقال إن اللجنة السداسية المعنية بحل الأزمة الكورية فيها معنى المشاركة والتعددية القطبية، قد يقال ذلك ولكن حقيقة تشكيل اللجنة السداسية لحل الأزمة الكورية الشمالية لا يعتبر من التعددية الدولية؛ لأن اليابان وكوريا الجنوبية أولاً ليستا دولاً فاعلة في الموقف الدولي، بالإضافة إلى كونهما تابعتين لأمريكا. وأما روسيا فتأثيرها على كوريا الشمالية لا يكاد يُذكر لأن الأخيرة محسوبة على الصين لا على روسيا وبالتالي فإن إشراكها في اللجنة لا قيمة له. وأما الصين فإشراكها في هذه اللجنة يهدف فقط إلى استخدامها للضغط على كوريا الشمالية من أجل حملها على التخلي عن برنامجها النووي وهو ما تم تحقيقه في نهاية المطاف نسبياً.
وقد ظهرت سياسة القطبية الأمريكية وتجسدت بشكل واضح كما قلنا في أهم مشكلتين نشأتا في السنوات الماضية وهما المشكلة العراقية والمشكلة الأفغانية. ففي العراق استبعدت أمريكا كل القوى العظمى عن المشاركة وتفردت وحدها في اتخاذ القرارات، واصطحبت معها بريطانيا كذيل لها لا تملك تأثيراً دولياً ولا وزناً حقيقاً، وقد اكتشفت بريطانيا ذلك مؤخراً وبدأت بالانسحاب من العراق وغيّرت رئيس وزرائها. وأما في أفغانستان فلم تتعامل أمريكا مع الدول الكبرى المؤثرة بوصفها دولاً مشاركة لها هناك، وإنما تعاملت مع حلف الناتو التي تقوده هي وبالتالي فإنها تحكمت في أفغانستان بمفردها واستخدمت دول الحلف فقط لتقوية وجودها العسكري مع إعطائها بعض الفتات. وأما في مناطق النزاع الأخرى كدارفور فلم تتشارك أمريكا مع غيرها في مجموعة اتصال دولية لمعالجة المشكلة وإنما فرضت كل من فرنسا وبريطانيا على أمريكا مسألة إشراكهما فيها، ومع ذلك لم تقبل أمريكا بمشاركتهما على قدم المساواة معها، وهذا ما سبَّب استمرار أمد المشكلة وإطالة الحرب في دارفور. وفي منطقة آسيا الوسطى تعاملت أمريكا منفردة مع دولها وتنافست وتصارعت مع روسيا دون مشاركة الدول الأوروبية الكبرى. وفي دول أوروبا الشرقية تجاهلت أمريكا الدول الأوروبية الغربية الكبرى تماماً وأوجدت ثقلاً لها فيها بعيداً عن رضا الأوروبيين مع أنها تعمل على أرضهم. وأما في علاقاتها مع الصين فكانت الدبلوماسية الثنائية هي التي تضبطها ولم تعر لدول الاتحاد الأوروبي أي اهتمام في إنشاء تلك العلاقات. فضغطت على الصين من خلال منظمة التجارة العالمية ومن خلال استثماراتها الضخمة فيها وذلك بفتح أسواقها أمام الصادرات الصينية دون أدنى تنسيق مع الأوروبيين. أما اشتراك الدول الكبرى في مجلس الأمن ودول الثمانية الصناعية الكبرى فلا يعتبر ذلك من سياسة المشاركة والتعددية لأنه جزء من القانون الدولي ومن قوانين المنظمة الدولية.
لقد خاضت أمريكا سياستها القطبية الدولية هذه تحت عنوانين محددين هما:
1) محاربة الإرهاب. 2) نشر الديمقراطية. ونجحت بالفعل في قيادة العالم بهذين الشعارين، فالكل اليوم يتحدث بهما، لا فرق بين الدول الكبرى والدول الصغرى.
أما محاربة الإرهاب فقد نجحت أمريكا في تجنيد دول العالم وإشراكها في حربها ضد المسلمين بما فيها الدول العظمى ونجحت بالتالي في اعتبار الإسلام عدواً رئيسياً لها، ولكنها مع ذلك فقد فشلت في الحد من انتشار نفوذ ما تُسميه بـِ (التطرف الإسلامي) في كل مكان من العالم الإسلامي. وقد بدأت الإدارة الأمريكية بالترويج إلى فكرة أن محاربة التطرف الإسلامي يستغرق عشرات السنين وأن الحرب ستكون طويلة ضد الإرهاب وستستغرق أجيالاً طويلة. وهذا الترويج لحرب طويلة مع الإرهاب منح أمريكا مكتسبين اثنين:
1) تخويف دول العالم باستمرار من الإسلام ومن ثم حملها على السير في ركاب أمريكا وتحت قيادتها لاستمرار تلك الحرب إلى ما لا نهاية.
2) استمرار عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية ومنحها بالتالي زخماً وقوة وهيبة.
وأما نشر الديمقراطية فكان نجاح الإدارة الأمريكية فيه محدوداً جداً وذلك لسببين:
1) عدم تعاون الأنظمة التابعة لها في مسألة الديمقراطية خوفاً من سقوطها.
2) عدم القدرة على حل معضلة مشاركة الحركات الإسلامية في اللعبة الديمقراطية.
وفي تقرير أمريكي مطول حول الديمقراطية والإسلام اعتمدته إدارة بوش صدر عن هيئة غير حزبية تابعة للكونغرس تسمى (خدمة أبحاث الكونغرس) أسست في العام 1914م ومهمتها تزويد الكونغرس بالأبحاث العملية التي يحتاجها الأعضاء لاتخاذ القرارات ينص على مبدأ أن "قيام شرق أوسط ديمقراطي سيكون أقل هشاشة أمام قوى التطرف"، ولوحظ بعد هذا التقرير تركيز الحكومة الأمريكية على تمويل مبادرات الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية فظهرت فكرة الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ورُصدت لها الأموال الطائلة، وأُطلقت الشعارات المتعلقة بنشر الديمقراطية في كل أرجاء العالم.
وأما بخصوص الرأي الأمريكي حول الإسلاميين وإشراكهم في السلطة فلم يتم بعد حسم الأمريكيين لموقفهم من إشراك الإسلاميين في الديمقراطية، وانقسم الخبراء الذين كتبوا التقرير إلى ثلاثة آراء:
فمنهم من يرى أن جميع الإسلاميين مشكوك فيهم، وأن جميعهم معادون للديمقراطية وللغرب كمارتن كرايمر ودانيال بايس بحسب ما ذكر التقرير. ومنهم من ينادي بالعمل مع الجماعات السياسية غير العنيفة، ويقول بأن مشاركة الإسلاميين في الحكم ستزيدهم واقعية وستحرم الراديكاليين تدريجياً من الأتباع. ومنهم من يرفع شعار البراغماتية في التعامل مع الإسلاميين ويطالب الإدارة الأمريكية باتباع منهج "التعامل الانتقائي مع الجماعات الإسلامية غير العنيفة وعدم الالتفات إلى الانتقادات التي تتهم أمريكا بازدواجية المعايير ما دامت هذه الانتقائية تخدم المصالح الأمريكية".
إن مشكلة أمريكا عموماً مع مسألة الديمقراطية فيما يسمى بدول العالم الثالث تكمن في أن الذي ينجح في الانتخابات الديمقراطية النزيهة يكون دائماً من المعادين للسياسة الأمريكية، وهذا ما جعل الإدارة الأمريكية تتخلى عن حماستها مؤخراً لنشر الديمقراطية في البلدان العربية بشكل خاص. إلا أن النهج البراغماتي الواقعي لدى الخبراء الأمريكيين يبدو أنه الغالب على سائر الاتجاهات الأخرى وهو نهج قبول التعامل مع الإسلام (المعتدل) الذي يقبل بالتعامل مع الأمريكان ويحقق لهم مصالحهم.
هذا بالنسبة لوضع أمريكا الدولي والتي تمثل القوة الأولى المهيمنة والتي اختارت سياسة الأحادية القطبية في التعامل مع العلاقات الدولية. وأما بالنسبة للقوى الكبرى الأخرى فيمكن توصيف سياساتها الدولية على النحو التالي:
فروسيا بعد أن استعادت عافيتها الاقتصادية، وسددت ديونها الخارجية، وحققت فائضاً في عملاتها الصعبة، وقبلت بعضوية كاملة في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى والتي تحولت باشتراكها فيها إلى مجموعة الثمانية الكبرى، روسيا هذه بدأت باستعادة مكانتها كقوة عظمى ثانية فاحتلت في السنوات الأخيرة المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تصدير السلاح بعد أن كانت قد تراجعت إلى المرتبة الرابعة عالمياً بعد أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وتحاول روسيا جاهدة طرد الأمريكيين من دول آسيا الوسطى الذين تسللوا إليها في لحظة ضعف عابرة مرت على روسيا بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق في بداية التسعينات من القرن الماضي. كما وتسعى روسيا أيضاً إلى فك ارتباطها بالمعاهدات التي وقعها الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين مع الأمريكان والتي تجردها من قوتها الضاربة التقليدية كمعاهدة نشر القوات البرية على الحدود الغربية لروسيا مع الدول الأوروبية، وكوقف طلعات الطائرات الاستراتيجية.
وتسعى كذلك إلى الدخول في شراكة حقيقية مع الصين لإنشاء تكتل دولي فاعل بينهما في وجه الأمريكيين بشكل من الأشكال.
وأخيراً تحاول روسيا تقوية علاقاتها بكل من الهند وإيران في محاولة جادة لتخفيف أثر الوجود الأمريكي فيهما. ويبدو أن السياسي الأمريكي المخضرم زبغيو بريجنسكي لاحظ ذلك فقال في كتابه (رقعة الشطرنج الكبيرة): "أما إيران فعلى الرغم من عدائها الشديد لأمريكا إلا أن وجودها ضروري من أجل منع روسيا من الوصول إلى منطقة الخليج. ثم إن نظام الحكم فيها قد يتغير ويصبح أقرب إلى الغرب في فترة لاحقة".
وأما بريطانيا فسياستها بعد طوني بلير قد تغيرت بشكل نوعي، فبعد تقرير مجلس العموم في 13/9/2007م المؤلف من 236 صفحة والذي تحدث عن فشل استراتيجية بوش في العراق وانتقد سياسات بلير بحرارة في عدم تأييده لوقف حرب تموز في لبنان عام 2006م ومنح براون الغطاء لسحب القوات البريطانية من العراق مع الاحتفاظ بوجود عسكري محدود فيه وتأييد الاتصالات مع حماس وحزب الله وعدم تأييد الممارسات الإسرائيلية في لبنان والانفتاح على سوريا بما يساعد الشركات البريطانية، وما شاكل ذلك من سياسات تخالف السياسات الأمريكية المعروفة. فبعد هذا التقرير انقلب الإنجليز على السياسة الأمريكية وابتعدوا عن تأييدها بشكل مفاجئ عما كان عليه الحال في عهد بلير. ثم عادت بريطانيا إلى قواعدها في ليبيا حيث قامت بصفقات سلاح ومؤتمرات ودسائس، وعيّنت مبعوثاً خاصاً لها للشرق الأوسط لا علاقة له بتوني بلير مبعوث الرباعية الدولية الخاضع للأمريكان، وبدأت بتخفيض قواتها في العراق وإعادة انتشارها، واستمرت بالتشكيك بالسياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان وأرسلت ملكتها إليزابيث الثانية لافتتاح مؤتمر الكومونولث في أوغندا لتقوية أواصر دول الكومونولث بها وزادت من ضغطها على السودان بخصوص دارفور، وحرّضت الصين للعب دور أكبر في السودان فقال براون: "إن على الصين أن تكون جزءاً من الموقف الدولي الموحد في دارفور وميانمار". وخلط براون التهديد مع التحريض عندما قال: "إن شركات كبرى تعمل في مجال الذهب والطاقة في أفريقيا أصبحت قلقة جداً من أن الصين تشتري جميع الموارد التي تستخدمها تلك الشركات". وهكذا عادت بريطانيا إلى لعبة التحريض والدس والتأثير من رواء ستار ضد السياسة الأمريكية دولياً.
وأما فرنسا فقد تبادلت الأدوار مع بريطانيا فهي من جهة قوّت علاقاتها مع أمريكا ومن جهة ثانية نسّقت سياساتها مع بريطانيا. إن السبب الرئيسي لتحول فرنسا عن سياسات شيراك هو خسارتها لعقود تنقيب عن النفط والغاز في الجزائر لصالح الشركات الأمريكية، كان الرئيس الجزائري بوتفليقة قد أعلن بكل صفاقة في حديث قصد به باريس أن الجزائر تتكئ على الجدار الأمريكي. بمعنى أنها تخلت عن الاتكاء على الجدار الفرنسي.
ويبدو أن الدعم الأمريكي للجزائر في حربها ضد الجماعات الإسلامية قد أضعف إلى حد ما النفوذ الفرنسي فيها والتي كانت الجزائر تعتبر في الواقع أكبر منطقة نفوذ اقتصادي وثقافي لفرنسا في العالم. وهذه الضربة التي تلقتها فرنسا بسبب سياسات شيراك المناوئة لأمريكا في الجزائر وأفريقيا قد دفعت بالسياسيين الفرنسيين لتأييد ساركوزي الذي وعد بتحسين علاقات فرنسا بأمريكا لاستعادة المصالح الفرنسية المفقودة. والزاوية التي تُركِّز عليها فرنسا اليوم ترتكز على تحقيق مصالحها الاقتصادية والثقافية بالدرجة الأولى، فإذا ما تم تأمين تلك المصالح فإنها تكون قد حققت جل أهدافها. وقد التفت الشركات الفرنسية ورجال الأعمال في فرنسا حول هذا النهج فتبنوه وأيدوه وتخلوا عن سياسات شيراك، وعلى سبيل المثال ففي زيارة ساركوزي الأخيرة للصين تم التركيز على المكاسب التجارية والاقتصادية فاصطحب ساركوزي معه الاقتصاديين ورجال الأعمال واستبعد وزيرة حقوق الإنسان، وكان امتنع من قبل عن استقبال الدلاي لاما أو حتى عن مجرد الحديث عن حقوق الإنسان في الصين. ويبدو أنه بسبب هذه السياسة الجديدة نجح في تأمين صفقات بعشرين مليار يورو مع الصين تتعلق ببيع مفاعلين نوويين رفضت الصين شرائهما أيام شيراك، كما مهّد لعقد صفقات ضخمة لبيع طائرات الإيرباص العملاقة. إن هذا التوجه الفرنسي الجديد يتلاءم مع السياسات الأوروبية الناجحة للاقتصاد البريطاني والألماني الأكثر انفتاحاً مع سياسات العولمة، وهو بهذا التوجه يجعل من فرنسا في حالة تناغم اقتصادي مع الاقتصاد العالمي الذي ترعاه أمريكا. فالمنافع الاقتصادية لسياسات ساركوزي تغلبت على المنافع السياسية التي لم تجلب لفرنسا سوى الخسائر والاصطدام غير المفيد مع الأمريكان في عهد شيراك الطويل.
وأما بالنسبة للصين فإنها تعترف بقدراتها ولا تقحم نفسها في مطبات دولية لا تستطيع تجاوزها، فهي تكتفي بتقوية اقتصادها وبالحفاظ على مجالها الإقليمي الذي لا يتجاوز حدود تايوان. وقوتها الاقتصادية هذه ستؤهلها قريباً للدخول في نادي الثمانية الكبار، وقد شرعت الدول الصناعية الكبرى الثمانية بالفعل باستضافتها في آخر اجتماعين للمجموعة تمهيداً لضمها إلى النادي في المستقبل القريب.
وأكبر اختراق للصين خارج مجالها الإقليمي وقع في القارة الأفريقية وانعكس هذا الاختراق في مشاركة الصين في تقديم 100 جندي إلى القوة الدولية في إقليم دارفور ضمن القوات الدولية الأفريقية المشتركة (الهجين).
إلا أن الصين بشكل عام تسير بحذر وببطء مع كل القوى الدولية الكبرى سواء مع الأمريكان أم الروس أم الدول الأوروبية وذلك نظراً لضعف سياساتها الخارجية وقلة خبرتها وعدم وجود نفوذ حقيقي سياسي لها في العالم.
وهكذا نرى أن بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين قد تَكَيَّفت كل منها مع السياسات الأمريكية التي اعتمدت القطبية الأحادية والتي يبدو أنها لن تنوي في المدى القريب التخلي عنها.
فمن المستبعد إذاً أن تعود أمريكا عن هذه السياسة في عهد أي رئيس أمريكي قادم سواء أكان من الجمهوريين أم من الديمقراطيين، وستستمر هذه السياسة على هذا النمط حتى بروز قوة كبرى جديدة تماثل أو تقارب القوة الأمريكية، وستبقى السياسة الأمريكية مهيمنة على العلاقات الدولية لمدة طويلة، ولن يحصل أي تغير على السياسة الدولية والموقف الدولي طالما لم تظهر قوة دولية جديدة متميزة.
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين الميلادي الحالي، ومع تسلم إدارة بوش للحكم في أمريكا تغيرت العلاقات الدولية وتحولت من سياسة المشاركة والتعددية إلى سياسة القطبية الأحادية. وبعد أحداث الحادي عشر من سيبتمبر 2001م اتضحت هذه السياسة وتبلورت وأصبحت واقعاً محسوساً سلَّم به المؤثرون في السياسة الدولية جميعاً.
لقد أثبتت هذه السياسة الأحادية فاعليتها في حربي أفغانستان والعراق بشكل خاص، وطغت على المشاكل السياسية الدولية التي ظهرت في مناطق عديدة من العالم فيما بعد وتم التخلي عن التعددية القطبية تماماً.
لقد كانت السياسة العالمية في التسعينات من القرن الماضي تتسم بالمشاركة والتعددية بالفعل، فعلى سبيل المثال كانت إدارة كلينتون تقبل بمشاركة روسيا ومجموعة دول الاتصال في حل مشكلة البوسنة وإن كانت الإدارة الأميركية تترأس المجموعة الدولية وكان لها التأثير الأكبر في القرارات فيها، إلا أنه كان واضحاً أن لبريطانيا وفرنسا وألمانيا وحتى إيطاليا تأثير ما في المشكلة البلقانية وإن كان أقل من التأثير الأمريكي.
ومن الأمثلة الأخرى في حقبة التسعينات والتي كانت تدلل على سياسة المشاركة والتعددية اشتراك فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى جانب أمريكا في مؤتمر شرم الشيخ في أواسط التسعينات لوضع الحلول لمشاكل الشرق الأوسط. ومن الأمثلة أيضاً مشاركة أمريكا لروسيا وبريطانيا في سياسة تجريد دول أوروبا الشرقية من الترسانة النووية.
ومع بدايات القرن الميلادي الحالي وتسلم إدارة بوش الحكم فقد أُسدل الستار على مثل هذه المشاركات والتعددية الدولية فاختفت وتلاشت ولم نعد نرى أي تشارك في حل المشاكل الدولية، ولم نعد نلاحظ حتى مجرد وجود تنسيق لمواقف الدول الكبرى مع الولايات المتحدة. إذاً فإدارة بوش هي التي أرست أسس سياسة القطبية الأحادية والتفرد في القرارات الدولية ولم تفعل ذلك الإدارات التي سبقتها وإن فكرت بها.
قد يقال إن الرباعية الدولية الخاصة بحل القضية الفلسطينية هي نوع من المشاركة السياسية للقوى العظمى، قد يقال ذلك إلا أن الصحيح أن هناك فرق كبير بين (الرباعية الدولية) التي وضعت خطة خارطة الطريق وبين التعددية الدولية التي كانت السياسة الدولية الرائجة في التسعينيات من القرن الماضي. فالرباعية الدولية على سبيل المثال قد استثنت بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأتت فقط بالاتحاد الأوروبي الذي لا يمتلك أي قرار كونه لا يعبر عن دولة بعينها من دول الاتحاد وفي هذا إضعاف كبير للدول الأوروبية الكبرى. وأما إشراك روسيا في الرباعية الدولية فلا يعني وجود (تعددية دولية) لأن روسيا لا تملك في الأصل نفوذاً في منطقة الشرق الأوسط وبالتالي فلا تأثير فعلياً لها بالمشاركة. وأما إشراك الأمم المتحدة في الرباعية فإنه لا يعدو كونه إشراكاً شكلياً يضفي الصبغة الدولية على سياسات الولايات المتحدة الفاقدة أصلاً للشرعية الدولية.
وقد يقال إن اللجنة السداسية المعنية بحل الأزمة الكورية فيها معنى المشاركة والتعددية القطبية، قد يقال ذلك ولكن حقيقة تشكيل اللجنة السداسية لحل الأزمة الكورية الشمالية لا يعتبر من التعددية الدولية؛ لأن اليابان وكوريا الجنوبية أولاً ليستا دولاً فاعلة في الموقف الدولي، بالإضافة إلى كونهما تابعتين لأمريكا. وأما روسيا فتأثيرها على كوريا الشمالية لا يكاد يُذكر لأن الأخيرة محسوبة على الصين لا على روسيا وبالتالي فإن إشراكها في اللجنة لا قيمة له. وأما الصين فإشراكها في هذه اللجنة يهدف فقط إلى استخدامها للضغط على كوريا الشمالية من أجل حملها على التخلي عن برنامجها النووي وهو ما تم تحقيقه في نهاية المطاف نسبياً.
وقد ظهرت سياسة القطبية الأمريكية وتجسدت بشكل واضح كما قلنا في أهم مشكلتين نشأتا في السنوات الماضية وهما المشكلة العراقية والمشكلة الأفغانية. ففي العراق استبعدت أمريكا كل القوى العظمى عن المشاركة وتفردت وحدها في اتخاذ القرارات، واصطحبت معها بريطانيا كذيل لها لا تملك تأثيراً دولياً ولا وزناً حقيقاً، وقد اكتشفت بريطانيا ذلك مؤخراً وبدأت بالانسحاب من العراق وغيّرت رئيس وزرائها. وأما في أفغانستان فلم تتعامل أمريكا مع الدول الكبرى المؤثرة بوصفها دولاً مشاركة لها هناك، وإنما تعاملت مع حلف الناتو التي تقوده هي وبالتالي فإنها تحكمت في أفغانستان بمفردها واستخدمت دول الحلف فقط لتقوية وجودها العسكري مع إعطائها بعض الفتات. وأما في مناطق النزاع الأخرى كدارفور فلم تتشارك أمريكا مع غيرها في مجموعة اتصال دولية لمعالجة المشكلة وإنما فرضت كل من فرنسا وبريطانيا على أمريكا مسألة إشراكهما فيها، ومع ذلك لم تقبل أمريكا بمشاركتهما على قدم المساواة معها، وهذا ما سبَّب استمرار أمد المشكلة وإطالة الحرب في دارفور. وفي منطقة آسيا الوسطى تعاملت أمريكا منفردة مع دولها وتنافست وتصارعت مع روسيا دون مشاركة الدول الأوروبية الكبرى. وفي دول أوروبا الشرقية تجاهلت أمريكا الدول الأوروبية الغربية الكبرى تماماً وأوجدت ثقلاً لها فيها بعيداً عن رضا الأوروبيين مع أنها تعمل على أرضهم. وأما في علاقاتها مع الصين فكانت الدبلوماسية الثنائية هي التي تضبطها ولم تعر لدول الاتحاد الأوروبي أي اهتمام في إنشاء تلك العلاقات. فضغطت على الصين من خلال منظمة التجارة العالمية ومن خلال استثماراتها الضخمة فيها وذلك بفتح أسواقها أمام الصادرات الصينية دون أدنى تنسيق مع الأوروبيين. أما اشتراك الدول الكبرى في مجلس الأمن ودول الثمانية الصناعية الكبرى فلا يعتبر ذلك من سياسة المشاركة والتعددية لأنه جزء من القانون الدولي ومن قوانين المنظمة الدولية.
لقد خاضت أمريكا سياستها القطبية الدولية هذه تحت عنوانين محددين هما:
1) محاربة الإرهاب. 2) نشر الديمقراطية. ونجحت بالفعل في قيادة العالم بهذين الشعارين، فالكل اليوم يتحدث بهما، لا فرق بين الدول الكبرى والدول الصغرى.
أما محاربة الإرهاب فقد نجحت أمريكا في تجنيد دول العالم وإشراكها في حربها ضد المسلمين بما فيها الدول العظمى ونجحت بالتالي في اعتبار الإسلام عدواً رئيسياً لها، ولكنها مع ذلك فقد فشلت في الحد من انتشار نفوذ ما تُسميه بـِ (التطرف الإسلامي) في كل مكان من العالم الإسلامي. وقد بدأت الإدارة الأمريكية بالترويج إلى فكرة أن محاربة التطرف الإسلامي يستغرق عشرات السنين وأن الحرب ستكون طويلة ضد الإرهاب وستستغرق أجيالاً طويلة. وهذا الترويج لحرب طويلة مع الإرهاب منح أمريكا مكتسبين اثنين:
1) تخويف دول العالم باستمرار من الإسلام ومن ثم حملها على السير في ركاب أمريكا وتحت قيادتها لاستمرار تلك الحرب إلى ما لا نهاية.
2) استمرار عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية ومنحها بالتالي زخماً وقوة وهيبة.
وأما نشر الديمقراطية فكان نجاح الإدارة الأمريكية فيه محدوداً جداً وذلك لسببين:
1) عدم تعاون الأنظمة التابعة لها في مسألة الديمقراطية خوفاً من سقوطها.
2) عدم القدرة على حل معضلة مشاركة الحركات الإسلامية في اللعبة الديمقراطية.
وفي تقرير أمريكي مطول حول الديمقراطية والإسلام اعتمدته إدارة بوش صدر عن هيئة غير حزبية تابعة للكونغرس تسمى (خدمة أبحاث الكونغرس) أسست في العام 1914م ومهمتها تزويد الكونغرس بالأبحاث العملية التي يحتاجها الأعضاء لاتخاذ القرارات ينص على مبدأ أن "قيام شرق أوسط ديمقراطي سيكون أقل هشاشة أمام قوى التطرف"، ولوحظ بعد هذا التقرير تركيز الحكومة الأمريكية على تمويل مبادرات الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية فظهرت فكرة الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ورُصدت لها الأموال الطائلة، وأُطلقت الشعارات المتعلقة بنشر الديمقراطية في كل أرجاء العالم.
وأما بخصوص الرأي الأمريكي حول الإسلاميين وإشراكهم في السلطة فلم يتم بعد حسم الأمريكيين لموقفهم من إشراك الإسلاميين في الديمقراطية، وانقسم الخبراء الذين كتبوا التقرير إلى ثلاثة آراء:
فمنهم من يرى أن جميع الإسلاميين مشكوك فيهم، وأن جميعهم معادون للديمقراطية وللغرب كمارتن كرايمر ودانيال بايس بحسب ما ذكر التقرير. ومنهم من ينادي بالعمل مع الجماعات السياسية غير العنيفة، ويقول بأن مشاركة الإسلاميين في الحكم ستزيدهم واقعية وستحرم الراديكاليين تدريجياً من الأتباع. ومنهم من يرفع شعار البراغماتية في التعامل مع الإسلاميين ويطالب الإدارة الأمريكية باتباع منهج "التعامل الانتقائي مع الجماعات الإسلامية غير العنيفة وعدم الالتفات إلى الانتقادات التي تتهم أمريكا بازدواجية المعايير ما دامت هذه الانتقائية تخدم المصالح الأمريكية".
إن مشكلة أمريكا عموماً مع مسألة الديمقراطية فيما يسمى بدول العالم الثالث تكمن في أن الذي ينجح في الانتخابات الديمقراطية النزيهة يكون دائماً من المعادين للسياسة الأمريكية، وهذا ما جعل الإدارة الأمريكية تتخلى عن حماستها مؤخراً لنشر الديمقراطية في البلدان العربية بشكل خاص. إلا أن النهج البراغماتي الواقعي لدى الخبراء الأمريكيين يبدو أنه الغالب على سائر الاتجاهات الأخرى وهو نهج قبول التعامل مع الإسلام (المعتدل) الذي يقبل بالتعامل مع الأمريكان ويحقق لهم مصالحهم.
هذا بالنسبة لوضع أمريكا الدولي والتي تمثل القوة الأولى المهيمنة والتي اختارت سياسة الأحادية القطبية في التعامل مع العلاقات الدولية. وأما بالنسبة للقوى الكبرى الأخرى فيمكن توصيف سياساتها الدولية على النحو التالي:
فروسيا بعد أن استعادت عافيتها الاقتصادية، وسددت ديونها الخارجية، وحققت فائضاً في عملاتها الصعبة، وقبلت بعضوية كاملة في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى والتي تحولت باشتراكها فيها إلى مجموعة الثمانية الكبرى، روسيا هذه بدأت باستعادة مكانتها كقوة عظمى ثانية فاحتلت في السنوات الأخيرة المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تصدير السلاح بعد أن كانت قد تراجعت إلى المرتبة الرابعة عالمياً بعد أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وتحاول روسيا جاهدة طرد الأمريكيين من دول آسيا الوسطى الذين تسللوا إليها في لحظة ضعف عابرة مرت على روسيا بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق في بداية التسعينات من القرن الماضي. كما وتسعى روسيا أيضاً إلى فك ارتباطها بالمعاهدات التي وقعها الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين مع الأمريكان والتي تجردها من قوتها الضاربة التقليدية كمعاهدة نشر القوات البرية على الحدود الغربية لروسيا مع الدول الأوروبية، وكوقف طلعات الطائرات الاستراتيجية.
وتسعى كذلك إلى الدخول في شراكة حقيقية مع الصين لإنشاء تكتل دولي فاعل بينهما في وجه الأمريكيين بشكل من الأشكال.
وأخيراً تحاول روسيا تقوية علاقاتها بكل من الهند وإيران في محاولة جادة لتخفيف أثر الوجود الأمريكي فيهما. ويبدو أن السياسي الأمريكي المخضرم زبغيو بريجنسكي لاحظ ذلك فقال في كتابه (رقعة الشطرنج الكبيرة): "أما إيران فعلى الرغم من عدائها الشديد لأمريكا إلا أن وجودها ضروري من أجل منع روسيا من الوصول إلى منطقة الخليج. ثم إن نظام الحكم فيها قد يتغير ويصبح أقرب إلى الغرب في فترة لاحقة".
وأما بريطانيا فسياستها بعد طوني بلير قد تغيرت بشكل نوعي، فبعد تقرير مجلس العموم في 13/9/2007م المؤلف من 236 صفحة والذي تحدث عن فشل استراتيجية بوش في العراق وانتقد سياسات بلير بحرارة في عدم تأييده لوقف حرب تموز في لبنان عام 2006م ومنح براون الغطاء لسحب القوات البريطانية من العراق مع الاحتفاظ بوجود عسكري محدود فيه وتأييد الاتصالات مع حماس وحزب الله وعدم تأييد الممارسات الإسرائيلية في لبنان والانفتاح على سوريا بما يساعد الشركات البريطانية، وما شاكل ذلك من سياسات تخالف السياسات الأمريكية المعروفة. فبعد هذا التقرير انقلب الإنجليز على السياسة الأمريكية وابتعدوا عن تأييدها بشكل مفاجئ عما كان عليه الحال في عهد بلير. ثم عادت بريطانيا إلى قواعدها في ليبيا حيث قامت بصفقات سلاح ومؤتمرات ودسائس، وعيّنت مبعوثاً خاصاً لها للشرق الأوسط لا علاقة له بتوني بلير مبعوث الرباعية الدولية الخاضع للأمريكان، وبدأت بتخفيض قواتها في العراق وإعادة انتشارها، واستمرت بالتشكيك بالسياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان وأرسلت ملكتها إليزابيث الثانية لافتتاح مؤتمر الكومونولث في أوغندا لتقوية أواصر دول الكومونولث بها وزادت من ضغطها على السودان بخصوص دارفور، وحرّضت الصين للعب دور أكبر في السودان فقال براون: "إن على الصين أن تكون جزءاً من الموقف الدولي الموحد في دارفور وميانمار". وخلط براون التهديد مع التحريض عندما قال: "إن شركات كبرى تعمل في مجال الذهب والطاقة في أفريقيا أصبحت قلقة جداً من أن الصين تشتري جميع الموارد التي تستخدمها تلك الشركات". وهكذا عادت بريطانيا إلى لعبة التحريض والدس والتأثير من رواء ستار ضد السياسة الأمريكية دولياً.
وأما فرنسا فقد تبادلت الأدوار مع بريطانيا فهي من جهة قوّت علاقاتها مع أمريكا ومن جهة ثانية نسّقت سياساتها مع بريطانيا. إن السبب الرئيسي لتحول فرنسا عن سياسات شيراك هو خسارتها لعقود تنقيب عن النفط والغاز في الجزائر لصالح الشركات الأمريكية، كان الرئيس الجزائري بوتفليقة قد أعلن بكل صفاقة في حديث قصد به باريس أن الجزائر تتكئ على الجدار الأمريكي. بمعنى أنها تخلت عن الاتكاء على الجدار الفرنسي.
ويبدو أن الدعم الأمريكي للجزائر في حربها ضد الجماعات الإسلامية قد أضعف إلى حد ما النفوذ الفرنسي فيها والتي كانت الجزائر تعتبر في الواقع أكبر منطقة نفوذ اقتصادي وثقافي لفرنسا في العالم. وهذه الضربة التي تلقتها فرنسا بسبب سياسات شيراك المناوئة لأمريكا في الجزائر وأفريقيا قد دفعت بالسياسيين الفرنسيين لتأييد ساركوزي الذي وعد بتحسين علاقات فرنسا بأمريكا لاستعادة المصالح الفرنسية المفقودة. والزاوية التي تُركِّز عليها فرنسا اليوم ترتكز على تحقيق مصالحها الاقتصادية والثقافية بالدرجة الأولى، فإذا ما تم تأمين تلك المصالح فإنها تكون قد حققت جل أهدافها. وقد التفت الشركات الفرنسية ورجال الأعمال في فرنسا حول هذا النهج فتبنوه وأيدوه وتخلوا عن سياسات شيراك، وعلى سبيل المثال ففي زيارة ساركوزي الأخيرة للصين تم التركيز على المكاسب التجارية والاقتصادية فاصطحب ساركوزي معه الاقتصاديين ورجال الأعمال واستبعد وزيرة حقوق الإنسان، وكان امتنع من قبل عن استقبال الدلاي لاما أو حتى عن مجرد الحديث عن حقوق الإنسان في الصين. ويبدو أنه بسبب هذه السياسة الجديدة نجح في تأمين صفقات بعشرين مليار يورو مع الصين تتعلق ببيع مفاعلين نوويين رفضت الصين شرائهما أيام شيراك، كما مهّد لعقد صفقات ضخمة لبيع طائرات الإيرباص العملاقة. إن هذا التوجه الفرنسي الجديد يتلاءم مع السياسات الأوروبية الناجحة للاقتصاد البريطاني والألماني الأكثر انفتاحاً مع سياسات العولمة، وهو بهذا التوجه يجعل من فرنسا في حالة تناغم اقتصادي مع الاقتصاد العالمي الذي ترعاه أمريكا. فالمنافع الاقتصادية لسياسات ساركوزي تغلبت على المنافع السياسية التي لم تجلب لفرنسا سوى الخسائر والاصطدام غير المفيد مع الأمريكان في عهد شيراك الطويل.
وأما بالنسبة للصين فإنها تعترف بقدراتها ولا تقحم نفسها في مطبات دولية لا تستطيع تجاوزها، فهي تكتفي بتقوية اقتصادها وبالحفاظ على مجالها الإقليمي الذي لا يتجاوز حدود تايوان. وقوتها الاقتصادية هذه ستؤهلها قريباً للدخول في نادي الثمانية الكبار، وقد شرعت الدول الصناعية الكبرى الثمانية بالفعل باستضافتها في آخر اجتماعين للمجموعة تمهيداً لضمها إلى النادي في المستقبل القريب.
وأكبر اختراق للصين خارج مجالها الإقليمي وقع في القارة الأفريقية وانعكس هذا الاختراق في مشاركة الصين في تقديم 100 جندي إلى القوة الدولية في إقليم دارفور ضمن القوات الدولية الأفريقية المشتركة (الهجين).
إلا أن الصين بشكل عام تسير بحذر وببطء مع كل القوى الدولية الكبرى سواء مع الأمريكان أم الروس أم الدول الأوروبية وذلك نظراً لضعف سياساتها الخارجية وقلة خبرتها وعدم وجود نفوذ حقيقي سياسي لها في العالم.
وهكذا نرى أن بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين قد تَكَيَّفت كل منها مع السياسات الأمريكية التي اعتمدت القطبية الأحادية والتي يبدو أنها لن تنوي في المدى القريب التخلي عنها.
فمن المستبعد إذاً أن تعود أمريكا عن هذه السياسة في عهد أي رئيس أمريكي قادم سواء أكان من الجمهوريين أم من الديمقراطيين، وستستمر هذه السياسة على هذا النمط حتى بروز قوة كبرى جديدة تماثل أو تقارب القوة الأمريكية، وستبقى السياسة الأمريكية مهيمنة على العلاقات الدولية لمدة طويلة، ولن يحصل أي تغير على السياسة الدولية والموقف الدولي طالما لم تظهر قوة دولية جديدة متميزة.
هناك تعليقان (2):
نقل عفش بالرياض
شركات نقل اثاث بالرياض
شركة نقل العفش بالمدينة المنورة
شركات نقل العفش بمكة
شركات نقل العفش
شركات نقل عفش بينبع
شركة نقل عفش بجازان
شركة نقل عفش بينبع
افضل شركة نقل اثاث وعفش بالرياض
افضل 10 شركات نقل عفش بالرياض
شركات نقل اثاث وعفش بجدة
شركة نقل عفش واثاث بالمدينة
شركة نقل عفش من المدينة الي الرياض
تكلفة شركات نقل العفش بالرياض
شركة نقل عفش واثاث بجازان
إرسال تعليق