الخميس، 25 فبراير 2016

الوضع الخاص لبريطانيا داخل الاتحاد الاوروبي يحصن اوروبا



الوضع الخاص لبريطانيا داخل الاتحاد الاوروبي يحصن اوروبا




توصلت القمة الأوروبية التي انعقدت يومي الخميس والجمعة 19و20/2/2016 في العاصمة البلجيكية بروكسل إلى اتفاق حاسم، تمكّنت فيه بريطانيا من انتزاع بعض المطالب المهمّة من الاتحاد الأوروبي، لا سيما التي تتعلق بالسيادة والهجرة وبعض الحقوق المالية والمجتمعية المتعلقة بغير البريطانيين، ورجّحت هذه الاتفاقية الجديدة بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، بعد أن كان الرأي العام في بريطانيا ينجرف باتجاه الخروج من المنظومة الأوروبية كلياً. وكان كاميرون قد مثّل دور المتشدّد في لهجته أمام نظرائه الأوروبيين في القمّة، فصرّح بأنّه: "لن يُبرم اتفاقاً إذا لم تحصل بريطانيا على ما تحتاجه". وعلى إثر توقيع الاتفاق الذي وصفه رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك بأنّه: "قد عزّز الوضع الخاص لبريطانيا في الاتحاد الأوروبي"، قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند: "إن المملكة المتحدة لديها الآن موقع خاص في أوروبا، فهي ليست عضوا في فضاء شنغن ولا في منطقة اليورو، وليست موقعة على ميثاق الحقوق، ولكن ليس هناك استثناءات لقواعد السوق المشتركة"، وأضاف: "ليس هناك تعديل مقرر للمعاهدات، ولا حق نقض للمملكة المتحدة على قرارات منطقة اليورو، وهذا خط أحمر لا يمكن تخطيه بالنسبة لفرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ". واعتبر هولاند أنّ رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد قبل بـ "مبدأ المساواة بين الأسواق المالية الأوروبية"، وأمّا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقالت بأنّ الاتفاق يُمثل "تسوية عادلة، لم يكن التوصل إليها سهلا بالنسبة لأي من المشاكل"، وقالت بأنّ شركاء كاميرون: "لم يقدّموا الكثير من التنازلات"، فيما اعتبر رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي أنّ "من الضروري الحديث عن مستقبل أوروبا، وليس فقط عن مكانة بريطانيا فيها، لأن هناك خطراً أن نفقد التركيز على الحلم الأوروبي الأصلي"، وقال رئيس وزراء الدنمارك: "إنّ ديفيد كاميرون كافح بشكل جيد من أجل بريطانيا، فالاتفاق جيد لبريطانيا والاتحاد الأوروبي، تهانينا". وصرّح رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون عقب الاتفاق والذي وصفه بـ"لحظة تاريخية" لبلاده، بقوله إنّه يعتقد أنّ "هذا يكفي لأوصي ببقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء المقرّر إجراؤه في بريطانيا"، والذي تمّ تعيينه فعلياً في 23 حزيران/يونيو 2016. وكان كاميرون قبل التوصل إلى هذا الاتفاق يُطالب الاتحاد الأوروبي بتنفيذ إصلاحات تتعلق بنقاط مثيرة للجدل بالنسبة للأوروبيين، من مثل تقليص الهجرة بين الدول الأوروبية، خاصة من دول شرق أوروبا كرومانيا وبلغاريا، وعدم دفع مساعدات إنسانية للمهاجرين المنحدرين من داخل الاتحاد الأوروبي بهدف العمل في بريطانيا، وعدم إعطاء المزيد من الصلاحيات للبرلمانات الوطنية، والتخلي عن الخطوات التي من شأنها أن تزيد من سلطات ومسؤوليات الاتحاد، ومشاركة بريطانيا في قرارات دول منطقة اليورو. إلاّ أنّ ما تمّ الاتفاق عليه جاء بصيغ عامّة قابلة للتعديل والتأويل، وفيها الكثير من التناقضات، فمثلاً جاء في الاتفاق أن المنظّمين البريطانيين، مثل بنك إنجلترا في لندن، سيُشرفون على البنوك والأسواق الوطنية، حين يتعلق الأمر بالحفاظ على الاستقرار المالي، وجاء في مكانٍ آخر أنّه يجب إخضاع جميع المراكز المالية - بما فيها البريطانية - في دول الاتحاد لقوانين الاتحاد، ورُفض طلب بريطانيا بأن يكون لها أي تأثير في منطقة اليورو. وأمّا أهم بنود الاتفاق التي تمّ التوصل إليها فيمكن تلخيصها في النقاط التالية: 1- في مجال الهجرة: السماح بـتعليق طارئ لبعض المساعدات الإنسانية التي تُقدّمها بريطانيا للمهاجرين الجدد على مدى سبع سنوات بصورة تدريجية، ولكن سيوضع نظام لربط الإعانات العائلية بمستوى المعيشة في البلد الذي يعيش فيه المهاجرون، وينطبق هذا على طالبي اللجوء الجدد، ويمكن أن يُوسع ليشمل المستفيدين الحاليين من المساعدات اعتبارا من عام 2020. 2- في مجال السيادة: استثناء بريطانيا من المبدأ الذي يُلزم الأعضاء بـ (اتحاد يزداد تقاربا) والذي يعتبر من أسس البناء الأوروبي، وذلك بحماية السيادة البريطانية الخاصة وعدم شمول بريطانيا فيه، ولكن لم تُحدّد تلك الأسس. 3- في مجال الحوكمة: حصول بريطانيا على إجراءات غير واضحة لحماية مركزها المالي من أي تمييز في أي بلد يستخدم اليورو، واعتراف الاتحاد الأوروبي بأن لديه عدة عملات، وليس عملة اليورو فقط، لكن هذه الصيغة جاءت مبهمة، فقد أكّد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أن الاتفاق لا يمنح لندن أي سلطة تعطيل لقرارات دول اليورو بهذا الشأن. 4- في مجال القدرة التنافسية: اتفق الاتحاد الأوروبي على تحسين القدرة التنافسية، واتخاذ إجراءات عملية لدفعها قدماً، ولم تُفصّل تلك الإجراءات وبقيت غامضة. ويُلاحظ أنّ غالبية هذه النقاط جاءت بصيغ فضفاضة حمّالة أوجه، وهذا ما جعل زعيم حزب الاستقلال البريطاني نايجل فاراج ينتقد الاتفاق بحدّة ويصفه بأنّه "لا يعالج القضايا الأساسية التي تهم الناس، ولا يساوي قيمة الورق الذي كُتب عليه، وبأنّه مثير للشفقة". وكان احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد أثار الكثير من القلق والهلع في أرجاء القارة الأوروبية، فجاء هذا الاتفاق الجديد بين لندن وبروكسل ليُهدّئ مخاوف الأوروبيين من هذا الخروج، وليُعزّز وجود بريطانيا داخل الاتحاد، ولو على حساب تقليل سلطة الاتحاد في التحكم بالشؤون البريطانية، فلا يُفرض على بريطانيا معايير أو قوانين الاتحاد كما يُفرض على غيرها، ويُصبح بوسع الحكومة البريطانية التنصل من الالتزامات المفروضة على سائر الدول الأعضاء فيه، وفقاً لتفسيرها الخاص للاتفاق. وقد مارست ألمانيا وفرنسا بشكلٍ خاص ضغوطاً كبيرةً على سائر دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لحملها على إقرار الاتفاق، ولإبقاء بريطانياً عضواً في الاتحاد وعدم السماح بخروجها منه، باعتبارها شريكاً لا غنىً عنه في أوروبا، وباعتبار أنّ قوة أوروبا لا تكتمل إلاّ بوجود بريطانيا في منظومتها. من ناحية مالية واقتصادية حافظت بريطانيا من خلال الاتفاق على استقلالية وضعها المالي، فحافظت على قوة الجنيه الإسترليني، وحافظت على استقلالية بورصة لندن بصفتها من أهم بورصات أوروبا والعالم، ولم تقبل بمساواتها مع البورصات الأوروبية بالرغم من ضغط الألمان والفرنسيين وسائر الأوروبيين عليها لحملها على التنازل عن تلك الخصوصية. كما رفضت تقديم نفس حجم الإعانات الإنسانية التي تُقدم للمهاجرين من شرق أوروبا كما تفعل سائر دول منطقة اليورو، واعتبرت أنّ منطقة الاتحاد الأوروبي مجرد سوق اقتصادي مشترك ليس إلا، وليس مشروعا اقتصاديا سياسيا موحّدا. ومن ناحية سياسية رفضت بريطانيا مبدأ التقارب والاندماج مع دول الاتحاد الأوروبي على مستوى الحكومات والبرلمانات، وأصرّت على عدم منح مؤسسات الاتحاد أية صلاحيات جديدة على بريطانيا. إنّ فرنسا وألمانيا - وهما اللتان تتحكمان فعلياً بدول الاتحاد الأوروبي - تُدركان أهمية بقاء بريطانيا تاريخياً داخل الاتحاد، لذلك قدّمتا بعض التنازلات لبريطانيا من أجل الحفاظ على وجودها معهما، فقبلتا بعدم اندماج بريطانيا في الاتحاد كسائر الدول الأخرى، مقابل تحصين أوروبا من الاختراق وانفلات دوله، وخروجها من العباءة الأوروبية. وكانت غالبية تلك التنازلات التي انتزعتها بريطانيا من الاتفاق لا تمس إلا دول شرق أوروبا، فيما بقيت العلاقات بين الدول الأوروبية الأصلية المؤسّسة للاتحاد على حالها، فلم تتقدّم ولم تتراجع. فطبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية المتشابكة بين بريطانيا وأوروبا تجعل من الصعب على الأوروبيين رؤية بريطانيا خارج المنطقة الأوروبية، لأنّ المصالح المشتركة بين بريطانيا وأوروبا أكبر من مجرد وجود اتحاد يجمعهما، ولأنّ بريطانيا مع فرنسا وألمانيا تُعتبر محوراً أساساً للقوة الأوروبية، وتتصف هذه الدول الثلاث بكونها دولاً كبرى تجتمع حولها سائر دول الاتحاد الأوروبي الأخرى في مواجهة روسيا، ومنافسة أمريكا، وموازنة القوى العالمية الأخرى. وخروج بريطانيا من دول الاتحاد - إن حصل - يعني انفراط عقد أوروبا بالرغم من بقاء الاتحاد، وخروجها منه سوف يؤدي على الأغلب إلى تفكك وتشرذم القوة الأوروبية ولو بقيت تشكيلاتها. لذلك فالأوروبيون لا يُمكن أن يسمحوا بهذا الخروج، ولو اضطروا إلى تقديم تنازلات لبريطانيا - وهو ما حصل بالفعل - وهو ما منحها وضعاً خاصاً جعل من دول الاتحاد في حالة من التمايز والاختلاف أعطت صورة سلبية عن عدم تساوي دوله أمام القوانين المنظّمة له. ومن هنا كان الحرص على بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي هو الذي أجاز منحها وضعاً خاصاً على حساب الدول الأوروبية الأخرى، وهو الذي ساعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في دفاعه عن بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد، بالرغم من كراهية التيارات القوية في حزبه البقاء فيه. وبعد أن كان كاميرون نفسه من المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد أصبح بعد الاتفاق من الداعمين له لدرجة أنّه أصبح يقول: "إنّ مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي سيكون بمثابة قفزة في الظلام". وبالرغم من أنّ الاتفاق بحد ذاته لم يحتوِ على أية بنود قاطعة لصالح بريطانيا، ولم يأتِ بجديد يستحق الذكر، وأبقى الأمور في حالة عائمة بين بريطانيا ودول الاتحاد، وحافظ على وضع بريطانيا الانتهازي بصفتها دولةً تضع قدماً في أوروبا وقدماً في أمريكا، إلاّ أنّه مع ذلك كله فقد قطع الطريق على المنادين بخروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية، وأبقى أوروبا كتلةً متحدةً نوعاً ما أمام خصومها، وحافظ على الحد الأدنى من علاقات التوحّد بين القوى الأوروبية الكبرى. فالاتفاق وبالرغم من ضعف نصوصه إلا أنّه قوّى صلات الترابط بين الأوروبيين، وقضى على إمكانية التفكير لدى أي دولة من دوله بالخروج من الجماعة الأوروبية، وسدّ الكثير من المنافذ على أمريكا للعبث بالدول الأوروبية، وأرسى قواعد عمل ثابتة - إلى حدٍ ما - للأوروبيين تضمن استقرارهم ضمن ولاءات أوروبية مقدّمة على أية ولاءات أخرى.

الخميس، 18 فبراير 2016

جريدة الراية: أمريكا تستفز كوريا الشمالية لتطويق الصين



جريدة الراية: أمريكا تستفز كوريا الشمالية لتطويق الصين







أعلن الناطق باسم الجيش الأمريكي أنّ الولايات المتحدة نشرت في كوريا الجنوبية بطاريةً إضافيةً لصواريخ مضادة للصواريخ من نوع (باتريوت) ردّاً على إجراء كوريا الشمالية تجربة نووية، وإطلاقها صاروخاً بالستياً، وقالت قيادة القوات الأمريكية في كوريا الجنوبية في بيان لها: "إن نشرَ هذه البطارية جزءٌ من تدريبٍ على نشر صواريخ بشكلٍ عاجلٍ رداً على الاستفزازات الكورية الشمالية الأخيرة".

أمّا الصين فقد جاء رد فعلها سريعاً على نشر المنظومة، حيث اعترض وزير خارجيتها وانغ يي على نشر الولايات المتحدة للمنظومة، ودعاها لأنْ تتحرك بحذر إزاء نشر هذا النظام الصاروخي المتطور المسمّى (ثاد) في شبه الجزيرة الكورية، وقال بأنّ: "عليها أنْ لا تستغل ذلك كذريعة للتأثير على أمن الصين، وعدم إضافة عامل معقد جديد للسلام والاستقرار في المنطقة"، وأعلنت وزارة الخارجية الصينية عن لقاءٍ تمّ بين وزير الخارجية الكوري الجنوبي وانغ يي ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري في ميونخ، وقالت بأنّ وانغ يي أبدى لكيري معارضة الصين الشديدة لنشر نظام (ثاد) الأمريكي للدفاع الصاروخي على الأراضي الكورية.

إنّ مشكلة كوريا الشمالية ليست مشكلة عابرة، أو مؤقتة، وحلّها ليس بالأمر المتيسر، وسبب إطالة هذه المشكلة وتعقيدها مرتبط بالصراع بين أمريكا والصين في منطقة شرق آسيا، فأصل المشكلة بالنسبة لأمريكا لا يتعلّق في كوريا الشمالية، وإنّما يتعلق بالصين نفسها، فكوريا الشمالية دولة صغيرة لا يزيد تعداد سكّانها عن خمسة وعشرين مليوناً، وهي دولة فقيرة وضعيفة اقتصادياً، ولا تملك من عناصر القوة سوى ذلك السلاح النووي المحدود، وكان بالإمكان حل مشكلة هذا السلاح لولا التعنت الأمريكي.

فأمريكا كانت دائماً ما تتعمّد إبقاء المشكلة على حالها، وعدم حلّها، لتستفيد من التوتر الموجود في تلك المنطقة من أجل فرض نفوذها فيها، ونشر قواعدها ومنظوماتها الصاروخية المختلفة، وإخضاع جميع دول تلك المنطقة لهيمنتها، والاستمرار في مراقبة قدرات الصين وتطويقها وتحجيمها.
والدليل على ذلك أنّ الهدنة التي تمّت بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية لم تتحول إلى سلام بين الدولتين، ولا حتى إلى حسن جوار بينهما، وذلك منذ انتهاء الحرب بين الدولتين في العام 1953 وإقامة المنطقة العازلة المجردة من السلاح على جانبي خط العرض (38) الحدودي الفاصل بينهما، فحالة الحرب الفعلية بين الدولتين الكوريتين ما تزال قائمة منذ ذلك التاريخ، ولو كانت أمريكا جادة في الإصلاح بينهما لما تأخرت لأكثر من ستين سنة.

وحتى عندما دخلت كوريا الشمالية في مفاوضات لوقف برنامجها النووي والتي عُرِفت بالمفاوضات السداسية وشاركت فيها كل من: روسيا والصين واليابان والولايات المتحدة بالإضافة إلى الكوريتين واستمرت لعدة جولات خلال الأعوام 2004 و2005 و2006 كانت أمريكا بتشددها تُفسد تلك المفاوضات، وكانت بتضييقها على كوريا الشمالية تُعطّلها، وبالتالي لم تصل إلى نتائج حاسمة.

وهذا الأسلوب الأمريكي المقصود في التفاوض والذي لم يمنح كوريا الشمالية الأمل في الحياة الكريمة، وإبقاء العقوبات المفروضة عليها لعشرات السنين، هو ما دفعها في نهاية العام 2006 إلى إجراء تجربة نووية، والإعلان عن امتلاكها للسلاح النووي.

ولكن ومع ذلك، وبعد إجراء التجربة عادت كوريا الشمالية - ولديها الرغبة الصادقة في حل مشكلتها النووية مع أمريكا والعالم - إلى المفاوضات السداسية في العام 2007، ووافقت على تعطيل مرافقها النووية، وتقديم جردة كاملة عن جميع برامجها النووية، وقامت بالفعل بتدمير برج التبريد في مفاعل (يونڤبيون) النووي لديها، وفي المقابل قامت الولايات المتحدة برفع جزئي للعقوبات الاقتصادية عنها، ولكنّ المفاوضات بعد ذلك سارت ببطء شديد بسبب الاشتراطات الأمريكية الكثيرة، وتأخر تنفيذ حُزم الحوافز الاقتصادية التي وُعدت بها، بالرغم من حاجتها الماسّة إليها، وهو ما دفعها مرةً ثانية للقيام بالإعلان عن استئناف نشاطاتها النووية، ثمّ زادت حدة الأزمة بعدما نصبت كوريا الشمالية صواريخ أرض/ أرض على منصات إطلاق في البحر الأصفر، وهدّدت بتحويله إلى بحر من نار في حال تعرضها للاعتداء أو لأي انتهاك لمياهها الإقليمية، واستمرت كوريا الشمالية بنهج التصعيد على أمل تليين الموقف الأمريكي، ولكنّ أمريكا صعدّت الأمور واستمرت بسكب الزيت على النار لتزيد من إشعال المنطقة برمّتها، وهو الأمر الذي أوجد توتراً شبه دائم في المنطقة، صاحبه إطلاق تصريحات نارية، وإجراء مناورات عسكرية صاخبة، وأحيانا كان يبلغ الوضع ذروته فتقع اشتباكات محدودة بين الكوريتين، وتحولت هذه الأعمال والأوضاع إلى سمات مألوفة مميّزة للوضع في تلك المنطقة الساخنة من العالم.
وبالإضافة إلى أمريكا هناك قوى أخرى كبيرة وفاعلة في المنطقة وهي الصين واليابان وروسيا، وتسعى هذه القوى الثلاث نوعاً ما إلى التهدئة، بينما تُصر أمريكا على التصعيد، فالاختلاف بين هذه القوى في النظرة إلى حل المشكلة الكورية بات واضحاً، والنظرة بينها تتباين حول طبيعة المشكلة وأصلها، وحول شكل التسوية السلمية المطلوبة لحلّها، وهذا التباين أدّى إلى استمرار الأزمة، واستمرار تداعياتها السلبية على أمن واستقرار منطقة شرق آسيا والعالم في الماضي وعلى المدى المستقبلي المنظور.

فواضح أنّ أمريكا وتابعتها كوريا الجنوبية، وإلى حدٍ ما اليابان تنتهج أسلوباً أكثر صرامة مع كوريا الشمالية، وذلك من خلال التلويح بفرض عقوبات اقتصادية جديدة، والتلويح بالقيام برد عسكري قوي إذا ما تكررت الاستفزازات من كوريا الشمالية، فيما تتمسك الصين بمنهج التهدئة والتعاون مع كوريا الشمالية عبر المحادثات السداسية أو ما شابهها.

وتبقى القوتان الرئيسيتان في المنطقة وهما الصين والولايات المتحدة هما الدولتين الوحيدتين القادرتين على إدارة دفة التطورات في شبه الجزيرة الكورية سلباً أو إيجاباً، وأهمية القوة الصينية آتية من جهة كونها الحليف الأول والوحيد لكوريا الشمالية منذ فترة طويلة، وهي المصدر الرئيس للغذاء والوقود اللازمين لعدم انهيار النظام الحاكم فيها، خاصة بسبب استمرار فرض العقوبات الاقتصادية الصارمة من قبل أمريكا ومجتمعها الدولي عليها، لذلك فالصين في الحقيقة تملك نفوذا حقيقياً هائلاً - اقتصاديا وسياسيا - على القيادة في كوريا الشمالية، وأمريكا بتحرشها في كوريا الشمالية إنّما تتحرش بالصين.

وقد حاولت الصين عدّة مرّات نزع فتيل الأزمة، فقد بادرت في نهاية عام 2010 باقتراح عقد اجتماع طارئ للمحادثات السداسية من أجل بحث نزع السلاح النووي لدى كوريا الشمالية، وتطبيع العلاقات بينها وبين جارتها كوريا الجنوبية، ولكنّ إدارة الرئيس الأمريكي أوباما وفي إطار ضغوطها على الصين، رفضت المبادرة، واتهمت قادة الصين بأنهم يساعدون كوريا الشمالية في تطوير برنامج تخصيب اليوارنيوم، وفي تشجيعها على شن الهجمات العسكرية علي كوريا الجنوبية، وادّعت أنّ الصين تغض الطرف عن انتهاكات كوريا الشمالية لقرارات مجلس الأمن الدولي، ولاتفاق الهدنة، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأنّ بلادها ربما تحتاج إلى إنشاء حلف مضاد للصين في منطقة شرق آسيا، لأن سلوكياتها المهادنة لكوريا الشمالية تُشجع قادة كوريا الشمالية على التمادي في تصرفاتهم الاستفزازية على حسب ادعائها.

فإدارة أوباما الديمقراطية تفوقت على الإدارات الجمهورية في استفزاز كوريا الشمالية، وهي تميل أكثر من سابقاتها إلى اتباع منهج أكثر تشدداً وصرامةً تجاه كوريا الشمالية.

وفي العام 2012 أجرت أمريكا مناورات عسكرية ضخمة مع سيئول استمرت أربعة أيام، وشاركت فيها حاملة الطائرات الأمريكية (يو إس إس جورج واشنطن)، وفرقاطات وطائرات لمحاربة الغواصات، وطرادات قاذفة للصواريخ مجهزة بنظام إيجيس المضاد للصواريخ البالستية.

وها هي أمريكا في هذه الأيام تنشر المزيد من بطاريات الصواريخ، وتُحضّر لإجراء المزيد من المناورات الاستفزازية المماثلة للمناورات التي أجرتها في العام 2012، وما زال يتمركز على الأراضي الكورية الجنوبية 28500 جندي أمريكي.

إنّ الإدارة الأمريكية تسعى دوماً في منطقة شرق آسيا إلى المحافظة على صورتها كقوة مهيمنة في منطقة شرق آسيا، فهي ما تزال تُوثق تحالفها الأمني والاقتصادي والاستراتيجي مع كوريا الجنوبية واليابان وتايوان لمواجهة الصين، وتستمر في تخويف هذه الدول من وجود عدو خطير يتمثل في كوريا الشمالية ومن خلفه الصين في منطقة البحر الأصفر، وهو ما يُبرر استمرار وجودها العسكري المكثف في تلك المنطقة، واستمرار مراقبة القدرات الصينية المتنامية ومحاولة تحجيمها وتطويقها.

- See more at: http://www.hizb-ut-tahrir.info/ar/index.php/alraiah-newspaper/35535.html#sthash.9iGAaj24.dpuf

الاثنين، 15 فبراير 2016

أهداف أمريكا من التدخل البري في سوريا




أهداف أمريكا من التدخل البري في سوريا




الخبر:

قال وزيرالدفاع الأمريكي أشتون كارتر إنّه يتوقّع أن تُرسل السعودية والإمارات قوات خاصة إلى سوريا لمساعدة مقاتلي المعارضة في معركتهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية لاستعادة الرقّة معقل التنظيم، وأضاف: "سنحاول أن نتيح الفرصة والقوة وبخاصة للعرب السنّة في سوريا الذين يريدون استعادة أراضيهم من داعش لا سيما الرقة"، وبيّن كارتر دور حلف الناتو في هذه المعركة فقال: "سيقدّم الحلف قدراته الفريدة بالإضافة إلى خبرته في تعزيز القدرات لدى الشركاء على صعيد تدريب القوات على الأرض وإرساء استقرار الوضع"، وأمّا دور سائر الدول المشاركة في التحالف الذي تقوده أمريكا في عدوانها على سوريا فيقول كارتر: "إنّ الدول الحليفة ستدرس خلال الأيام والأسابيع المقبلة الدور المناسب الذي تُشارك فيه بشكل منفرد ضمن التحالف الدولي ضد داعش".

التعليق:


إن ّتصريحات كارتر هذه لا شك أنّها تُشير إلى وجود عمليات عسكرية جديدة في سوريا تُخطّط لها أمريكا منذ فترة، فهي تُريد إقحام المزيد من القوات المختلفة في أتون المعارك التي تُشعلها في سوريا لمدد زمنية طويلة، كما تُريد تعقيد الأوضاع، وتشتيت القوى في سوريا، لتحقيق أهداف خبيثة.
ونقلت رويترز يوم الخميس الفائت عن مسؤول في وزارة البنتاغون قوله إنّ: "الوزارة ستُقدّم قريباً خطّة للكونغرس بشأن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية"، وأجرى كارتر في بروكسل محادثات مع أكثر من اثني عشر وزيراً في دول التحالف، وضغط عليهم للمساهمة في تقديم ما يمكن تقديمه في تلك الخطة، وهذا يعني أنّ المنطقة مقبلة على الولوج في حروب مفتوحة ضد عدوٍ مبهم، في حين يبقى نظام بشّار وهو المتسبب الرئيس في أزمة_سوريا بمنأى عن هذه الحروب، بل يتم تقويته ودعمه وإضعاف خصومه وتشتيت قواهم، وقد عاقبت أمريكا ما يُسمّى بلواء المعتصم الذي تدعمه بقطع الدعم العسكري عنه بسبب مشاركته في صد هجوم لقوات الأسد في ريف حلب الشمالي بذريعة أنّ دعم أمريكا له كان مشروطا بقتال تنظيم الدولة فقط.
فهذه الخطة الأمريكية الجديدة تبدو صارمةً في إبعاد المتحاربين عن قوات بشّار الأسد، وفي جعل الحرب محصورة في مناطق لا وجود لقوات الأسد فيها، وقد أكّد عادل الجبير وزير الخارجية السعودي هذا المعنى بقوله: "إن هناك محادثات جارية حالياً حول إرسال قوات برّية للسيطرة على مناطق داخل سوريا لا يُمكن السيطرة عليها من الجو فقط"، وردّاً على تصريحات رئيس الحكومة الروسي ميدفيديف التي حذّر فيها من أنّ العمليات البرّية قد تؤدي إلى حرب دائمة كما حصل في أفغانستان، وأنّها ستمتد إلى سنوات قال الجبير: "أعتقد أنّ هذا مبالغ فيه".
وانجرّت فرنسا بقوة وراء أمريكا في تأييد خطتها هذه خاصة بعد إقالة وزير خارجيتها فابيوس الذي يبدو أنّه كان معارضاً صريحا لخطط أمريكا بشكل عام في سوريا، وكان يُشكّك في الدور الأمريكي في سوريا، ووصف السياسة الأمريكية قبيل تركه للوزارة بسويعات بأنّها سياسة غامضة، وانجرار فرنسا لأمريكا أكّده رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس بقوله: "إنّ الهجوم البري لقوات محلية وعربية سيكون حاسماً في القضاء على داعش".
من الواضح إذاً أنّ أمريكا زجّت بعملائها وحلفائها لخوض حروب جانبية في سوريا لتحقيق أهداف مُريبة، من أهمها تمزيق سوريا إلى كانتونات، ومحاولة القضاء على الثورة وإجهاضها نهائياً، وإقصاء القوة الإسلامية المتصاعدة في سوريا، والعمل على تدميرها، لذلك كان اعتماد أمريكا في تحقيق أهدافها الإجرامية تلك على السعودية بالدرجة الأولى وذلك لما لها من مكانة وقوة في المنطقة، والتي يسعى حكامها العملاء إلى إثبات جدارتهم في قيادة المنطقة نحو خدمة الخطط الأمريكية من دون تردّد، فقد صرّح أحمد العسيري مستشار وزير الدفاع السعودي: "إنّ إعلان المملكة المشاركة بقوات على الأرض قرار لا رجعة فيه، وإنّنا جاهزون لإرسال قوات برّية إلى سوريا بمجرّد اتخاذ التحالف الدولي قراراً بذلك"، وهذا يعني أنّ السعودية مستعدة لتلبية الرغبات الأمريكية بمجرد الطلب، وأنّها رهن إشارة أمريكا لها.
وبدلاً من أن تقوم السعودية - بما تملك من إمكانيات هائلة - بمواجهة نظام بشّار الذي تسبّب بكل تلك الكوارث والمآسي في سوريا، وبدلاً من قيامها بدعم الثوار والمستضعفين ورفع القتل والمعاناة والجوع والتشرد عنهم، بدلاً من ذلك كله، تقوم السعودية بمحاربة تنظيم الدولة في مناطق بعيدة جداً عن مركز الصراع الرئيس الدائر في سوريا، لا لشيء إلا استجابة للتعليمات الأمريكية.
لكنّ أمريكا وشركاءها كروسيا وفرنسا وبريطانيا، وأدواتها كالسعودية وإيران وتركيا، مهما حشدوا، ومهما خطّطوا ومكروا، فلن يُفلحوا في وقف لهيب الثورة، وستستمر القوة الإسلامية الثورية في الصعود في سوريا حتى إقامة الخلافة الإسلامية الحقيقية على منهاج النبوة رغماً عن أنف أمريكا ومن شايعها.

الصراع الأمريكي الأوروبي حول ليبيا




اجوبة اسئلة حول الصراع الأمريكي الأوروبي على ليبيا






الأحد، 14 فبراير 2016

حدود التصعيد بين روسيا وتركيا


حدود التصعيد بين روسيا وتركيا




لم تتوقف وتيرة التصعيد بين روسيا وتركيا منذ إسقاط تركيا لطائرة سوخوي الروسية وذلك بعد أكثر من شهرين على إسقاطها، بل إنّ الأمورما زالت تتعقّد وتزداد تفاقماً بين البلدين، فالإتهامات المتبادلة بينهما لا تتوقف، وحالة الإحتقان، وارتفاع حدّة التوتر، والحرب الكلامية، أصبحت من مفردات اللغة السياسية اليومية السائدة في وسائل إعلام الدولتين ضد بعضهما البعض، في حين لم تقم أيٍ من الدول الكبرى بأية وساطة جادّة لإنهاء الأزمة بينهما، وهو ما أفضى إلى المزيد من التصعيد - الذي إن استمرّ على نفس الوتيرة - فإنّه قد يتسبب في حدوث إشتباك عسكري بين قوات البلدين على الحدود السورية التركية، قد تكون له مضاعفات غير محسوبة العواقب، خاصّة بعد نشر روسيا لمنظومة صواريخ ( اس 400 ) التي تُغَطي كافة الأجواء السورية، وجزءاً من الأجواء التركية، والتي بمقدورها إسقاط أي طائرة تركية تُحلّق في تلك الأجواء.
هذا فضلاً عن امتلاء السماء السورية بالقاذفات الروسية المتطورة، بالإضافة إلى وجود حشد كثيف من البوارج والسفن الحربية الروسية المختلفة الأشكال والأنواع قبالة السواحل السورية والتركية، وهو ما قد يزيد من احتمالات وقوع الاشتباك العسكري بين الطرفين، وخروج الوضع عن السيطرة.
 وحالة التصعيد بين الدولتين لم تقتصرعلى حدود الاتهامات اللفظية، وإدّعاءات روسيا لتركيا بدعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، وتسهيل تهريب النفط الذي يقوم به تنظيم الدولة والاستفادة من بيعه، وإثباتات تركيا لروسيا بقصف المعارضة المعتدلة، ومشاركة نظام الأسد في قصف المدنيين، وقتلهم وتهجيرهم.
 كما لم تنتهِ هذه الحالة عند حدود العقوبات التي شملت قطاعات الطاقة والتجارة والسياحة، بل تعدّتها لتصل إلى استهداف السوريين التركمان، وقصفهم، وتشريد عشرات الآلاف منهم من قرى جبل التركمان على الحدود مع تركيا.
 وإنّ استخدام الروس في هذه الأيام لسياسة الأرض المحروقة في تلك المنطقة، أدّى إلى استفزاز الجيش التركي الذي بات يقف وقوف المتفرّج على ذبح التركمان، والذين هم من المحسوبين على الأتراك، كما أدّى إلى إحراج الدولة التركية التي تقف اليوم عاجزةً تماماً عن القيام بأي عمل عسكري للدفاع عنهم.
إنّ حادثة إسقاط تركيا للطائرة الروسية قد أحدثت شرخاً عميقاً في العلاقات الروسية التركية يتعسّر جسره، وفتحت جروحاً بليغة من الماضي يصعب دملها، وأحيت ذكريات مريرة نابعة عن اثنتي عشرة حرباً خاضتها روسيا ضد الدولة العثمانية، خلّفت على إثرها حالةً مزمنةً من العداء التاريخي بين الدولتين لم يكن نسيانها بالأمر السهل، وجاءت هذه الحادثة لتستحضرالتاريخ، ولتكون بمثابة وسيلة إيقاظ لتلك العداوة، ولِتُعيدَ الحياة إليها.
لقد تأثّرت هيبة روسيا كثيراً بسبب هذه الحادثة، وعبّرعنها بوتين بقوله إنّها طعنة غادرة من الخلف لم يكن يتوقّعها من الأتراك، فصبّ جام غضبه على تركيا، وأزبد وعربد، وبيّت شرّاً، وأظهر تعطّشه للإنتقام، وسعى بكل السبل للنيل من تركيا، وإلحاق أشد الأذى بها، وذكّرها بانتصارات روسيا عليها، وهزائم تركيا المتتالية أمام الروس حسب ادعائه.
ولشدة غيظه وتأثّره بالحادثة لمز بوتين في قناة الأمريكان، ولمّح إلى أنّهم ربّما يكونوا هم وراء تحريض الأتراك على اسقاط الطائرة فقال:" أبلغنا شركاءنا الأمريكيين بموعد ومكان عمل الطائرات الروسية، وبعد ذلك بالضبط أسقطت القوات الجوية التركية الطائرة الحربية الروسية"، وتساءل نادماً:" لماذا نقلنا هذه المعلومات للأمريكيين؟! "، وتجاهلت أمريكا هذه التصريحات، ولم تُعلّق عليها.
ويبدو أن الروس يتحيّنون الفرص، وسيحاولون الثأر من تركيا، وسيسعون لإسقاط طائرة تركية واحدة على الأقل، لتكون النتيجة واحدة بواحدة، وذلك لإستعادة الهيبة، ولإشفاء كبريائهم المثلوم، ولإثبات عظمة روسيا، والرد على الإهانة التي تلقتها من الأتراك، خاصّة وأنّهم لم يعتذروا بشكل صريح، مع أنّهم اعترفوا بأنّهم لم يكونوا قاصدين إسقاط الطائرة، كما عبّرعن ذلك نائب رئيس الوزراء التركي نعمان كورتولموش عندما قال:"إنّ إسقاط الطائرة الروسية لم يكن عن قصد"، لكنّ الروس لم يكفهم هذا الكلام، ويريدون اعتذاراً صريحاً.
أمّا بالنسبة للموقف الأمريكي من هذه الحادثة، فهو وإن كان موقفاً بارداً ويظهر فيه اللامبالاة، إلاّ أنّه لن يسمح بتطور الأحداث بين الدولتين وبلوغها حالة الحرب، لأنّ أمريكا لا تُريد إلحاق الأذى بروسيا، فهي تستفيد من الروس كثيراً في سورية من خلال الحفاظ على نظام بشّار، ومن خلال منع تركيا التوّاقة لإقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية على حدودها، ومن خلال إجهاض الثورة التي انتشرت فيها الموجة الاسلامية التي عجزت أدواتها المحلية عن إيقاف انتشارها، ومن جهةٍ ثانية فهي لا تُريد من روسيا أن تُضعف من قوة تركيا لأنّها عضو في حلف الناتو منذ العام 1952، ولأنّ النظام فيها تابع مخلص لها.
لكن مع ذلك فمن الممكن أن تسمح أمريكا لروسيا بالإنتقام الجزئي من تُركيا بحيث لا يؤثّر ذلك الإنتقام على سقوط حزب العدالة من الحكم، ولا يؤدي إلى حرب شاملة تدخل فيها أطراف عدة قد تؤدي إلى إخراج الأمور عن السيطرة.
أمّا مواقف الأوروبيين، فواضح فيها الدّس وتوسيع رقعة الخلاف بين روسيا وتركيا، وإحراج الأمريكيين مع الروس، ومحاولة الإيقاع بينهما، فقد أصدرت بريطانيا تقريرها السنوي الاستراتيجي في نهاية العام 2015 جاء فيه أنّ:" روسيا تُشكّل أكبر تهديد للسلام العالمي بعد تنظيم الدولة الإسلامية"، فبريطانيا تقوم بصب الزيت على النارمن خلال مواقفها، ومن خلال تصريحات مسؤوليها المتعلقة بروسيا، فقد قال وزير خارجيتها فيليب هاموند:" إنّ روسيا تعمل على إقامة دولة كردية في الساحل السوري"، وأمّا فرنسا والتي كانت دائماً ما تعرض وساطاتها لحل الخلافات بين روسيا والدول الغربية، كما فعلت سابقاً بين روسيا والغرب بخصوص قضايا جورجيا وأكرانيا، فقد ظلّت هذه المرّة صامتة، ولم تُحرّك ساكناً.
ولكن هذه المواقف الأوروبية السلبية تجاه روسيا وأمريكا لم تجد آذاناً صاغية لدى الروس والأمريكان، فروسيا وبالرغم من جعجعتها الصوتية، ومن خلال قعقعة السلاح التي أحدثتها ضد تركيا إلاّ أنّها في الواقع لا تجرؤ على خوض حربٍ شاملة معها، لأنّها تعلم أنّ أمريكا تُساند تركيا، ومجرد علمها بذلك يجعلها تدوس على كرامتها، وتدوس على فراملها، رهبة من أمريكا.
 فضلاً عن أنّ لروسيا مصالح اقتصادية هائلة في تركيا، ولا تُريد أن تُجازف بخسارتها الفادحة إن هي خاضت معها حرباً، وقطعت علاقاتها معها، فروسيا من ناحية اقتصادية تُعتبرالشريك الثاني لتركيا بعد الإتحاد الأوروبي، وتركيا من الناحية الإقتصادية تُعتبر الشريك الثاني لروسيا بعد ألمانيا، وتركيا تستورد 60 % من حاجتها من الغاز الطبيعي من روسيا بأسعار عالية تُدرّ على روسيا مداخيل كبيرة، فلا تُريد روسيا خسارة زبائنها المهمين في شراء الغاز منها، ويذهبوا إلى منافسيها مثل قطر، فالأزمة بين البلدين تبقى محصورة بحدود معينة، ولا تتجاوز حد المناوشات الكلامية، أو الأعمال العسكرية المحدودة جداً.     













السبت، 6 فبراير 2016

ابعاد زيارة روحاني لفرنسا وايطاليا

ابعاد زيارة روحاني لفرنسا وايطاليا






تُعتبر زيارة الرئيس الإيراني لإيطاليا وفرنسا منعطفاً سياسياً مُهمّاً في تاريخ العلاقات الإيرانية الأوروبية، لذلك كانت الزيارة - في نوعها وحجمها وزخمها - على مستوى عالٍ من حيث كونها قفزة نوعية في تطبيع العلاقات الإيرانية مع جميع دول العالم الغربي، وأثمرت عودة إيران بقوة إلى الساحة الدولية، بعد أن عانت طويلاً من العزلة الأممية. فقد رافق الرئيس روحاني في جولته الأوروبية وفد كبير مُكوّن من مائة وعشرين شخصاً يُمثّلون كافة القطاعات الاقتصادية والسياسية الرئيسية في الدولة، إضافة إلى اصطحابه لوزراء الخارجية والنفط والنقل والصناعة والصحة، وقوبل هذا الوفد الإيراني الضخم باهتمام فرنسي وإيطالي لافت، وقد شارك أساطين الصناعة، وأرباب المال، وأركان الاقتصاد، في كلٍ من فرنسا وإيطاليا القيادات السياسية فيهما، شاركوا في توقيع العقود والصفقات التي بلغت عشرات المليارات من الدولارات. لقد كان الاقتصاد بمثابة بوابة العبور الإيراني إلى قلب أوروبا، بل كان بمثابة تأشيرة الدخول لإيران إلى ما يُسمّى بالعالم الحر، وكانت الصفقات الأسطورية التي تم إبرامها مع فرنسا وإيطاليا بمثابة شيفرة القبول الغربي لهذا الوافد الجديد الذي طالما كان يُتهم برعاية الإرهاب. فشراء إيران لمائة وأربع عشرة طائرة إيرباص دُفعة واحدة لا تُساهم في إنعاش الاقتصاد الفرنسي المتعثّر فحسب، بل تُساهم أيضاً في إنعاش جُلّ الاقتصاد الأوروبي الذي يُشارك فرنسا في صناعة تلك الطائرات. لقد نالت فرنسا نصيب الأسد من كعكة عودة إيران إلى عالم التجارة والمال والاستثمار مع الدول الغربية، فشملت العقود والصفقات بينهما قطاعات الطاقة والطيران والسيارات والقطارات والفنادق والصحة وغيرها، بحيث لم يبق في إيران شيء يستحق التنمية إلاّ وشاركت فيه فرنسا. يقول بيتر جاتاز رئيس رابطة أصحاب الأعمال الفرنسية: "إن حاجات إيران هائلة، فالإيرانيون بحاجة إلى كل شيء، وهذا البلد لا يبدأ من الصفر، ولديه قوة عاملة مستواها التعليمي جيد جداً، ويتمتع بإمكانيات حقيقية للتنمية". ففرنسا ترى في إيران ذات الثمانين مليون نسمة سوقاً رحبة لسلعها وصناعاتها، ويُساعدها في ذلك علاقاتها الاقتصادية والتجارية السابقة معها قبل فرض العقوبات الأمريكية على إيران، وعلى الشركات التي تعمل فيها، ومنها الشركات الفرنسية، والتي كان قد تمّ تعليق عملها هناك منذ العام 2004، لذلك أصبحت الحاجة ماسّة لفرنسا ولإيران - بعد رفع العقوبات الأمريكية عنها - لتصفية ما علق بينهما من عقود توقفت منذ ذلك التاريخ، حيث كانت فرنسا من أكبر المستثمرين في إيران في تلك الفترة. ومن المرجح أنّ ألمانيا وبريطانيا ستلحقان قريباً بفرنسا وإيطاليا في أخذ حصتيهما من الكعكة الإيرانية، ولكن بمستوى أقل، وكذلك سائر الدول الأوروبية ذات العلاقة مثل إسبانيا وهولندا وبعض الدول الإسكندنافية. أمّا بالنسبة للدول الكبرى الأخرى وبالذات روسيا والصين فإنّه وبالرغم من وجود علاقات قوية لإيران معهما، إلاّ أنّهما لا تمتلكان الإمكانيات الصناعية المتقدمة التي تُلبي الحاجات الإيرانية، بالإضافة إلى كون إيران من الدول الخاضعة للنفوذ الغربي من ناحية سياسية، وليس لروسيا أو الصين أي نفوذ حقيقي فيها. وأمّا بالنسبة للدور الأمريكي في هذا الانفتاح الإيراني على أوروبا فهو بلا شك دورٌ فعّال وحاسم، ولولاه لما حصل هذا الانفتاح، فأمريكا هي التي قادت القوى الست الكبرى لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، وأمريكا هي التي قرّرت أنّ إيران قد تخلصت من منظومتها النووية العسكرية، ولم يعد بمقدورها حيازة سلاح نووي، وهي أول من باشر في رفع العقوبات عن طهران، وتلتها سائر الدول، وهي الدولة الأولى التي سبقت غيرها من الدول، وقامت بالإفراج عن مليارات الدولارات من الأرصدة الإيرانية المجمّدة في البنوك الأمريكية، وكانت من قبل هي أول من فرض العقوبات على الشركات الأوروبية التي كانت تستثمر في إيران. فأمريكا إذاً هي التي فرضت العقوبات على إيران، وهي التي رفعت العقوبات عنها، وعودة أوروبا للاستثمار الاقتصادي في إيران إنّما كان بضوء أخضر من أمريكا، وبقبول منها. فإيران في الحقيقة هي دولة تسير في ركاب أمريكا منذ ثورة الخميني في العام 1979، ولولا أمريكا ما نجحت الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه، فهي التي حيّدت الجيش الإيراني وقوى الأمن المختلفة والسافاك التابع للشاه، ومنعتهم من قمع الثورة، والجنرال الأمريكي هويزر قائد القوات الأمريكية في الشرق الأدنى آنذاك هو الذي أشرف بنفسه على خروج الشاه من إيران، وقد أفصح الشاه في مذكراته عن تلك الحقيقة المرّة بالنسبة إليه بقوله: "هكذا أخرجتني أمريكا من إيران وألقتني كالفأر الميت"، وإيران بعد الثورة هي التي ساعدت أمريكا في غزو أفغانستان والعراق باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، وما زالت إيران تُقدّم الخدمات لأمريكا في العراق وسوريا واليمن وغيرها من مناطق النزاع، وما زالت أمريكا تستخدم إيران كفزّاعة ضد دول الخليج لبيعها السلاح، وشحنها بالمزيد من القواعد الأمريكية، وما تزال أمريكا تستخدم إيران كعرّاب إلى جانب السعودية في نشر الطائفية المقيتة بين المسلمين، لإشعال الحرائق في البلدان العربية والإسلامية. فإذا كان هذا هو واقع علاقة إيران بأمريكا، فهل يُعقل أنّ أمريكا لا تؤثّر في العلاقات الإيرانية الأوروبية؟ يبدو أنّ أمريكا بالسماح للأوروبيين بعقد هذه الصفقات المجزية الضخمة مع إيران، قد دفعت لأوروبا ثمن تأييد بريطانيا وفرنسا وألمانيا لها في الاتفاق النووي، وأعادت للأوروبيين جزءاً ممّا خسروه جرّاء العقوبات التي فرضتها أمريكا على الشركات الأوروبية أيام عزل إيران، وأثبتت بذلك أنّ ناصية الأوروبيين ما زالت بيدها، فهي التي تُعاقب متى شاءت، وترفع العقوبات متى تشاء، وأنّ على الأوروبيين أن يظلوا سائرين في ظل قيادتها (الحكيمة!) لكي ينعموا بمعيتها بالرخاء والوفرة الاقتصادية، وأنّ عليهم أنْ لا يشقوا عصا طاعتها، وأن يبقوا دوماً في حلفها، وجزءاً من قيادتها الأطلسية، وأنّ يُدْركوا أنّ التصارع معها، أو التشويش على سياساتها لن يفيد الأوروبيين بشيء، وقد يضرهم أكثر ممّا ينفعهم، وأنّها تتسامح معهم كثيراً، وتترك لهم منافع كبيرة كالسوق الإيراني المتعطش لاستثماراتهم، فهي قد أظهرت أنّها زاهدة فيه، وهي ليست بحاجة إليه، فلديها أسواق أخرى كثيرة، لذلك تركته خالصاً للأوروبيين. ولأنّ أمريكا لا تُريد الاستثمار في إيران، وتركت أسواقها للأوروبيين، فقد قامت بعد أن رفعت العقوبات السابقة عنها، بفرض عقوبات جديدة عليها، تتعلق هذه المرّة بدعوى تطوير إيران لصواريخها الباليستية، لتجعل الإيرانيين يعيشون في حالة خوف منها بشكل دائم، ليظلوا تابعين لها، ويرجون عفوها، ولتُذكّر المستفيدين من العلاقات الاقتصادية معها بالحذر من الخروج عن سياساتها. وهذا الأسلوب الأمريكي هو سياسة أمريكية قديمة تستخدمها أمريكا كثيراً في مناطق عدّة في العالم، كالسودان الذي ما زالت أمريكا تفرض عليه العقوبات، بالرغم من كل ما قدّمه لها من تنازلات بلغت حدّ شطر الدولة السودانية نفسها إلى نصفين. هذه هي الطبيعة العدوانية لأمريكا ولسائر الدول الاستعمارية، حيث لا همّ لها إلاّ السيطرة والهيمنة والتكالب على موارد الدول الضعيفة، وامتصاص خيراتها، وبسط النفوذ الدائم عليها، لإبقائها في حالة ولاء مستمر لها، وتبعية مطلقة لأوامرها. وهكذا فإنّنا نرى أنّ الصفقات الأوروبية مع إيران لا تُفيد الأخيرة على المدى البعيد، بل هي صفقات تدخل في سياق تقاسم المنافع بين الأوروبيين والأمريكيين، وكان الثمنُ الذي قدّمته إيران لهم فظيعاً، أضرّ بقرارها السيادي، وهو تخليها عن كل ما أنجزته من مجهودات هائلة، وعلى مدى سنين طويلة، في بناء أول ترسانة نووية ذاتية قامت إيران بتأسيسها بعرَق أبنائها، وثرواتهم، فتنازلت بذلك التخلي عن طريق عزّتها واستقلاليتها، لتعود مجرد دولة استهلاكية عادية، وسوقاً رخيصة للسلع والمنتجات الأجنبية التي تغزوها، شأنها في ذلك شأن سائر الدول المسمّاة بالنامية، بلا أمل لها في الانعتاق من قيد أمريكا وأوروبا، ولا مستقبل لها في النهوض والارتقاء.