الأربعاء، 17 سبتمبر 2008

بوليفيا وإرادة التغيير


بوليفيا وإرادة التغيير

تحليل سياسي

احتدم الصراع في بوليفيا بين قوتين: قوة رأس المال المتمثلة بطبقة الأغنياء التي تهيمن على اقتصاد البلاد منذ فترة بعيدة، وتدعمها الولايات المتحدة، ويسيطر رموزها على خمسة ولايات غنية من أصل تسع ولايات تتشكل منها الدولة، وكان حكام البلاد السابقون ينحدرون منها، وقوة شعبية صاعدة تمثلها الدولة الرسمية بقيادة ايفو موراليس الذي يستند إلى دعم غالبية سكانية طفيفة ( 54 % ) من الفقراء ومن السكان الأصليين من الهنود الحمر.
لقد اندلعت شرارة المواجهات الأخيرة عندما أراد الرئيس موراليس الإقدام على إصلاحات دستورية جديدة يترتب عليها إعادة تقسيم المزارع التي تسيطر عليها المجموعة الرأسمالية، ومنح بعضها إلى الفقراء والهنود الحمر، لإنصافهم، وتحسين مستواهم الاقتصادي، ورفع مكانتهم السياسية.
و كالعادة تبنّت أمريكا موقف حلفائها من الرأسماليين البيض الذين يسيطرون على المزارع وعلى الأراضي الخصبة في البلاد ليحفظوا لها مصالحها الاستعمارية القديمة في بوليفيا. واندفع موراليس في مواجهته الجريئة هذه مدعوما ً بقوة شعبية عارمة، ومسلحا ً ببعض الأفكار الاشتراكية، ومشحونا ً بكراهية مفرطة لكل ما هو أميركي، وواثقا ً بدعم حلفائه اليساريين في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وتشيلي.
ولكن لما وجد موراليس أن تكتلاً شرساً من حكام أربعة ولايات وقف ضده، ووجد أن دعم أمريكا لأعدائه غير المحدود أدّى إلى استعدادهم لإشعال حرب أهلية فتّاكة لا تُحمد عواقبها، لما أدرك ذلك تراجع قليلاً عن المواجهة وقبل بالحوار، لا سيما وأن جماعات أميركا في تلك المناطق قد اغتالت حوالي عشرين شخصاً من أتباعه، وبدأت تُحضّر نفسها لخوض حربٍ مدمّرة تنتهي بها المطاف إلى الانفصال عن الدولة. إلاّ أنّ موراليس ومع ذلك كله فهو ما زال يسعى وبكل قوة للتخلص منهم بالتدريج وبأقل الخسائر.
لقد بدأ موراليس بالخطوة الأسلم والتي لا بد من اتخاذها وهي طرد السفير الأمريكي، وذلك من أجل إبعاد التدخل الأمريكي الأكثر خطراً على حكمه، وقطع كل وسائل الدعم عن معارضيه بقدر الإمكان. ثم اتخذ بعض الإجراءات الأمنية الاخرى لحماية مواطنيه، فاعتقل بعض المتورطين بأعمال القتل، وعزل بعض المسؤولين، لكنه تجنب المواجهة المفتوحة مع المعارضة لمنع حدوث حرب أهلية.
ثم التفت موراليس إلى اليوناسور وهو اتحاد دول جنوب أمريكا اللاتينية والذي يسعى إلى تشكيل اتحاد سياسي واقتصادي بين اثنتي عشرة دولة أمريكية في أمريكا اللاتينية على غرار الاتحاد الأوروبي باعتباره يشكل غطاءً إقليمياً جيداً لحماية الدول الصغيرة في أمريكا اللاتينية كبوليفيا، وليمنع أمريكا من الاستفراد بها، والتلاعب بمقدراتها، فكانت خطواته هذه تنم عن حكمة وبصيرة، من جهة أنه عرف حجم قوته، ولم يجازف بمخاطرة غير مأمونة العواقب.
ويعود جانب كبير من الفضل في نجاحه هذا إلى تحول غالبية دول أمريكا اللاتينية عن حكم العسكر، وإذعان أمريكا وقبولها لوصول حكام عن طريق الانتخابات النزيهة إلى سدة السلطة، وان كانوا معادين لها، ولعولمتها، وهذا أدّى بدوره إلى انعتاق دول أمريكا اللاتينية من قبضة أمريكا تدريجياً.
وتُساهم البرازيل بما لديها من ثقل اقتصادي وسياسي كبير في أمريكا الجنوبية، تُساهم بفعاليةٍ في حماية استقلال وحرية الدول الصغيرة، وفي ملء الفراغ الكبير الناشئ عن طرد النفوذ الأميركي منها، خاصة وأنها أصبحت تملك ثامن أكبر اقتصاد في العالم، ولديها كل أسباب القوة التي تجعلها غير قابلة للابتلاع من قبل أمريكا. وقد قرّرت البرازيل تعزيزاً مكانتها العالمية بناء خمسين مفاعلاً نووياً في الخمسين سنة القادمة، كما تقدمت على أمريكا في إنتاج الوقود الحيوي، ولديها سياسات اقتصادية ناجحة تديرها الدولة، ولم تنخدع أبداً في لعبة الخصخصة الدولية التي تُروج لها أمريكا في الدول (النامية).
إن مستقبل دول أميركا اللاتينية يبدو أنه مستقبل واعد، ويبدو أنه سيشكل مركز ثقلٍ عالميٍ جديدٍ، وسينتقل سريعاً من دول ما يسمى بالعالم الثالث إلى مصاف الدول الفاعلة، وسيخوض غمار العلاقات الدولية كقوة مستقلة جديدة.

ليست هناك تعليقات: