الأحد، 3 يناير 2010

خطط التحفيز وتداعياتها على الاقتصاد العالمي


خطط التحفيز وتداعياتها على الاقتصاد العالمي
بالرغم من الإجراءات الصارمة التي اتخذت لمنع انهيار الاقتصاد العالمي بعد تفجر الأزمة المالية العام الماضي، وبالرغم من إعلان الاقتصاديات الكبرى خروجها من حالة الركود، إلا أن الاقتصاد العالمي ما زال هشّاً وغير موثوق به، فإخراج العالم من أزمته الاقتصادية لا شك أنه يواجه عقبات ومصاعب عديدة يصعب على الدول الكبرى تخطيها بسهولة، فالرأسمالية التي أطاحت بتريليونات الدولارات في لحظات لا يمكن أن تعيد تلك الأموال لأصحابها بحال من الأحوال، لأنها في الأصل لم تكن أموالاً حقيقية، وإنما كانت أرقاماً في حسابات دفترية وليست أصولاً أو جهوداً موجودة في الواقع. وبعد أن تضخمت الأموال المعدومة وعجز الكثيرون عن السداد وخاصة بعد بروز فقاعة المساكن انفجرت الأزمة المالية في وجه العالم الرأسمالي وتبددت الأموال في لمحة عابرة.
يقول الخبير حسن حامد حسان لوِكالة ((CNN)): "إن العالم تورط في تعاملات قيمتها ستمائة تريليون دولار في حين أن الاقتصاد الحقيقي للعالم لا يتجاوز الستين تريليون دولار" وهذا الكلام يعني أن تسعة أعشار الأموال التي كان يتم تداولها بين أيدي الناس لم تكن موجودة، فلما انكشفت حقيقة الأرصدة المالية في البنوك انفجرت الأزمة المالية وتبددت تلك الأموال في الفضاء، وعاد العالم إلى ما لديه من أموال حقيقية، أي عاد إلى التعامل بالعشر الحقيقي من المال الذي بحوزته والذي يبلغ ستين تريليون دولار فقط، وذلك بعد أن تبخر مبلغ 540 تريليون دولار.
لم تجد أمريكا والدول الرأسمالية الكبرى الأخرى من علاج لأزمتها المالية العالمية سوى ما أسموه بخطط التحفيز، أي ضخ الأموال في البنوك والمؤسسات المالية ليحولوا دون وقوع الانهيار الكامل في الحياة الاقتصادية، فضخت أمريكا (787) مليار دولار منها (159) مليار حافظت بواسطتها على (640) ألف وظيفة، وقال جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي: "إن كل دولار أنفق من حزمة الحوافز ساعد في إعادة شخص ما إلى العمل". وأما الحكومة البريطانية فقد ضخت لمصارفها ومجموعاتها المالية مبلغ إجمالي بقيمة 850 مليار جنيه إسترليني وذلك لتبقي على مؤسساتها المالية في الريادة عالمياً خوفاً من الانهيار الشامل لها باعتبار أن هذه المؤسسات الربوية هي رأسمال بريطانيا الحقيقي. وضخت الدول الكبرى الأخرى عشرات المليارات من الدولارات وذلك كله من أجل منع بروز قوى اقتصادية جديدة تعتزل هذا النظام الرأسمالي العالمي، وتنكفئ على نفسها متبنية السياسات الحمائية، وذلك خوفاً من تكرار أزمة 1929م وما تمخض عنها من ظهور ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان واندلاع الحرب العالمية. وأما السعودية وكمثال على الدول العربية النفطية ففقد ضخت 56 مليار دولار. وهكذا فقد ضخت سائر الدول سيولة نقدية كبيرة لتلافي تأثير الأزمة عليها. وما زال البنك العالمي الذي تسيطر عليه أمريكا والدول الرأسمالية الغربية يحذر من مغبة الوقوع في السياسات الحمائية بسبب تفشي البطالة وعدم توزيع الأموال توزيعاً عادلاً. فخطط التحفيز هذه صحيح أنها قد عالجت الأزمة بطريقة تمنع من وقوع العالم في حالة كساد كبير كما حصل في العام 1929 من العام الماضي فمنعت حدوث الانهيار الاقتصادي الشامل، لكنها أوجدت في المقابل أضراراً ومشاكل أخرى لا يُستهان بها، وأهمها البطالة والعجز في الموازنات الحكومية وزيادة التضخم وارتفاع الأسعار وزيادة الفقر والجوع في العالم، حيث أصبح نصف سكان العالم من الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولارين يومياً للفرد الواحد، بينما أصبح خمس سكان العالم يعيشون في فقر مدقع بدخل يومي يقل عن دولار واحد للفرد.
إن خطط التحفيز التي استخدمتها الدول الرأسمالية الكبرى كعلاج ودواء للاستشفاء من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية التي ما يزال العالم يتخبط في دياجيرها، لم تنجح في إعادة العالم إلى ما كان عليه من ازدهار اقتصادي ولن تنجح في ذلك أبداً. والسبب بسيط جداً وهو أن العالم الرأسمالي كان يعيش في حالة اقتصادية وهمية، فبسبب التسهيلات الائتمانية كانت المصارف تقدم القروض للأفراد الذين كانوا يعيشون في مستوى معيشي أعلى من المستوى الذي توفره لهم دخولهم، فمثلاً كان الشخص الذي يدخل عليه ألف دولار يعيش بمستوى الشخص الذي يدخل عليه ألفي دولار معتمداً على الاقتراض السهل والسداد السهل أو عدم السداد نهائياً. وبعد المباشرة بتنفيذ خطط التحفيز وُضعت القيود الصارمة على الائتمان، وعاد الناس إلى مستواهم المعيشي الحقيقي، فلا ينفقون إلا بقدر ما يملكون، ولا يوجد من يقرضهم بدون ضمانات مشددة لضمان السداد، وهو ما أدّى إلى حالة من التباطؤ الاقتصادي - مع أنها الحالة الحقيقية لما عليه المجتمع من قدرات اقتصادية واقعية -، لأن الحالة السابقة كانت حالة مزيفة لاقتصاد متضخم، والعودة إليها يعني العودة إلى الاقتصاد الوهمي المبني على ما يطلقون عليه اقتصاد الفقاعة التي قد تنفجر في أية لحظة. فخطط التحفيز ما هي في الواقع سوى معالجات تسكينية لأوجاع المشكلة وليست حلولاً شافية لها.
إن المحاولات الأمريكية والأوروبية لإيجاد معالجات تمنع من استشراء الأزمة المالية فيها، أو تحد منها، لم تفلح في التخلص من شبح البطالة الذي أطلَّ برأسه مشكّلاً أزمة جديدة لا تقل في خطورتها واستمرارها عن الأزمة المالية العالمية، فارتفاع معدلات البطالة والعجز عن تخفيضها في العام الأخير بشكل خاص أظهر حقيقة أن هذه الأزمة هي الهاجس الجديد الذي بات يقلق السياسيين والاقتصاديين في الغرب، فالبطالة سجلت أرقاماً مخيفة في الدول الغربية مؤخراً حيث بلغت في أمريكا أكثر من 10% وفي بريطانيا 7.8% وفي الدول الأوروبية تراوح ما بين 7.5% وَ 8.5% وهو ما حدا بالمدير العام لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي من القول بأن: "ارتفاع معدل البطالة هو أكبر خطر يُهدِّد التجارة الحرة في العالم وقد يتسبب في إطلاق المزيد من السياسات الحمائية في العالم".
وأما الارتفاع الكبير في العجز فمن الواضح أن سببه أيضاً خطط التحفيز التي قامت بها الدول لمواجهة الأزمة المالية والتي دفعتها لضخ المليارات وتقليص الإيرادات. وتزايدت أرقام العجز في الموازنة والميزان التجاري في أمريكا على سبيل المثال باضطراد، فقد بلغ العجز في الميزانية لهذا العام 176.36 مليار بزيادة قدرها 20 مليار عن العام السابق، وبلغ العجز الإجمالي للموازنة 1.7 تريليون دولار. وهو أكبر عجز تسجله واشنطن منذ 1945، ويعادل أكثر من 10% من إجمالي الناتج المحلي .
وأما العجز في الميزان التجاري الأمريكي فقد بلغ 18.2% بواقع 36.5 مليار دولار شهرياً، بينما كان في آب الفائت 30.8 مليار. وأما العجز في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين فبلغ 22.1 مليار دولار أي بنسبة 9.2%.
وأما ارتفاع معدلات البطالة والفقر فهما أكبر آفة تُواجه الدول الصناعية الكبرى بعد هدؤ العاصفة، فقد قال البنك الدولي في تقديرات جديدة له "إن الأزمة العالمية ستضيف أكثر من 150 مليون شخص إلى صفوف الفقراء في العالم بحلول العام 2010وإن أكثر من ثلاثين مليونا بأوروبا وآسيا سيكونون من ضحايا موجة الفقر الجديدة". ومن جهتها أكدت منظمة العمل الدولية "إن الأزمة الاقتصادية العالمية تسببت خلال عام في إلغاء ما لا يقل عن 20 مليون وظيفة", وحذرت من أن ملايين أخرى من الوظائف قد تلغى إذا عجلت الدول بوقف برامج الحفز الاقتصادي. وقالت المنظمة -وهي إحدى الوكالات التابعة للأمم المتحدة- في تقرير نشر اليوم تحت عنوان"أزمة الوظائف العالمية وما وراءها " إن البيانات التي قدمتها 51 دولة تظهر أن 20 مليون شخص على أقل تقدير سرحوا من وظائفهم منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي ورفعت الأزمة معدلات البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات لم تسجل منذ ربع قرن على الأقل إذ تعدت 10% أو أوشكت أن تبلغها".

هذه هي آفات الرأسمالية وهذه هي عيوبها، فهي مهما حاولت إصلاح نظامها فلن تنجح في ذلك أبداً مهما اتخذت من خطوات، وذلك لأن الفساد ضارب في جذورها وجذوعها، وليس في ثمارها وأوراقها ولا حتى أغصانها، والحل الوحيد لإصلاح الاقتصاد العالمي يكمن في نبذ هذه الرأسمالية المتوحشة ونبذ الدول الراعية لها.
إن معالجة الأزمة المالية بخطط التحفيز قد خلقت دولاراً ضعيفاً أوجد مشكلة مزمنة في العالم وأدّى إلى عدم وجود أي استقرار نقدي، خاصة إذا عُلم أن الوضع المالي الائتماني للبنوك الأمريكية متأزم لدرجة أنه يصعب معه الوثوق بالاقتصاد الأمريكي نفسه، وإذا أضفنا عليه مشكلة زيادة المديونية الحكومية للولايات المتحدة الأمريكية بسبب حروبها في العراق وأفغانستان والخشية من تعاظم تلك المديونية فإننا نستطيع بعد ذلك أن نفسر بسهولة أسباب تدهور واضطراب سعر صرف الدولار وارتفاع معدل التضخم في أمريكا.
إن حالة العلاج بالتحفيز لدى الدول الغربية الكبرى أظهر قوى اقتصادية كبرى جديدة إلى السطح وهي ما أطلق عليها دول البريك الأربعة [البرازيل، والصين، وروسيا، والهند] والتي تميز اقتصادها منذ أن أطلقت عليها هذا الاسم الشركة المالية الاستثمارية الأمريكية Gold mansachs في العام 2003م، حيث أن اقتصادها ينمو بوتيرة ثابتة وبطريقة ديناميكية أفضل من غيرها. لذلك ليس غريباً أن الدول الغربية أغرتها بالدخول في منظومة دول العشرين، ووعدتها بزيادة حصصها التصويتية في صندوق النقد الدولي وفي البنك العالمي. ويبدو أن هناك مداولات سرية كما تقول صحيفة الإندبندنت البريطانية تجري بين الصين واليابان وروسيا وفرنسا وبين دول الخليج بتشجيع بريطاني للتحول خلال عشر سنوات إلى تسعير النفط مقابل سلة من العملات بدلاً من تسعيره بالدولار الأمريكي.
وقد أفصحت الصين صراحة عن رغبتها في استخدام عملتها اليوان في التسعير وصرَّح الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دي سيلفا في مقابلة أجرتها معه صحيفة (Financial times) بأنه: "يتوجب على دول مجموعة ألـ (Bric) التخلي عن الدولار واستخدام العملات الوطنية في الحسابات التجارية فيما بينها"، وأضاف: "إن الدول الأعضاء في ألـ (Bric) تشكل تحالفاً قوياً وتتمتع بمستقبل زاهر، ولذا يجدر بها التركيز على الجوانب الإيجابية في التعاون فيما بينها لتحقيق النجاح المرتجى".
وبخلاف الدول الغربية التي تعاني من ركود فإن دول البريك تحقق نسب نمو مرتفعة وكأنها لم تتأثر أبداً بالأزمة المالية العالمية، فقد وصلت نسبة النمو في الصين على سبيل المثال في الربع الثالث من عام 2009م إلى 8.4% ، وأنفقت الحكومة الصينية مبلغ 586 مليار دولار على مشاريع في البنى التحتية، وتعهد رئيس وزرائها وين جياو باو بتقديم قروض لأفريقيا بقيمة 10 مليار دولار لتقوية العلاقات التجارية الأفريقية الصينية على حساب العلاقات الأوروبية الأفريقية، ودعمت الصين روسيا بعشرة مليار دولار أخرى في مشاريع مشتركة. وكان حجم الصادرات الصينية قد وصل العام الماضي إلى أكثر من 400 مليار دولار بينما لم تتعد الصادرات الأمريكية مبلغ ال 70 مليار.

إلا أنه ومع ذلك كله فالاقتصاد الصيني يحتاج إلى الاقتصاد الأمريكي ولا يستطيع الاستغناء عنه، يقول سيدني ريتنبرغ أحد المحللين المختصين بالشؤون الصينية: "العلاقة بين البلدين ترتكز على أن الأمريكيين يشترون المنتجات الصينية، والصين تستخدم المداخيل لتمويل المديونية العامة في أمريكا ودون هذا التمويل ستكون الحال صعبة جداً على الاقتصاد الأمريكي".
وتتسابق كل من روسيا والهند والبرازيل مع الصين على الاستثمار في أفريقيا إلى جانب أمريكا والدول الأوروبية. فالصين قد تصدرت قائمة المصدرين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العام الجاري، إذ ارتفعت قيمة صادراتها إلى 59 مليار دولار مقابل تراجع حصة الولايات المتحدة إلى 53.8 مليار دولار في المركز الثاني. وقد خصّصت الشركات الصينية في هذه الأيام مبلغ 16 مليار دولار للبحث عن النفط والغاز في دول الخليج وشمال أفريقيا، وهذا كله يؤشر إلى وجود قوى اقتصادية جديدة على رأسها الصين تنافس القوى الغربية التي تتخبط في معالجاتها التحفيزية منافسة حقيقية.
وفي خضم هذا التحاطم الاقتصادي بين تلك القوى تغيب دول العالم العربي والإسلامي عن الساحة الاقتصادية تماماً كما هي غائبة عن الساحة السياسية، ولا يُنظر إليها من قبل هذه الدول المتطاحنة إلاّ بوصفها أماكن صراع تحوي في جوفها الكثير من النفط والغاز والثروات.

ليست هناك تعليقات: