الاثنين، 29 يونيو 2009

الدول الناشئة تبحث عن مكان لها في الساحة الدولية

استخدم مفهوم الدول الناشئة لأول مرة قبل عشر سنوات من قبل المؤسسات المصرفية والتي حصرت المفهوم بالأسواق المالية الناشئة وبالإمكانيات الاستثمارية للدول التي تملك وضعية مريحة لجذب الاستثمارات.
ثم تطور هذا المفهوم وأضيف إليه عاملان هما:
1) وجود انطلاقة اقتصادية حقيقية لدى الدول الناشئة.
2) وجود تصنيع متسارع.
ولعب المستوى السياسي دوراً هاماً في الدول الناشئة لإيجاد المناخ الاقتصادي السليم الذي يحد من الفساد ويفيد من رؤوس الأموال.
أما النقلة النوعية للدول الناشئة والتي صح أن توصف بالدول ذات الاستقلال الاقتصادي المدعوم بالقوة الديمقراطية من وجهة النظر الغربية فكانت متجسدة في ثلاث دول ليس غير وهي الصين والبرازيل والهند، فهذه الدول الثلاث هي التي تستحوذ على مفهوم النشوء الاقتصادي بشكل كامل.
أما روسيا فهي لم تنشئ صناعة وتصنيع لأنها في الأصل تملك ذلك، لكنها انشغلت في الحقبة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي في البحث عن الاستقرار السياسي وأهملت الناحية الصناعية والإنتاجية.
ولما استقرت سياسياً بشكل نسبي عادت إلى التصنيع والإنتاج شأنها شأن الدول الناشئة فاندمجت في مفهوم الدول الناشئة اندماجاً كاملاً ضمن مجموعة ما يُسمى بدول ألـ(بريك) فأصبحت هذه الدول أربعة دول ناشئة رسمياً.
من سمات هذه الدول أنها تطورت صناعياً وارتقت اقتصادياً من مستوى الدول النامية إلى مستوى الدول المتطورة، فكان اصطلاح النشوء هو أبرز ما يميزها عن المستوى المتدني للدول النامية وعن المستوى المتقدم للدول الصناعية الغنية الكبرى.
يتم أحياناً إلحاق بعض الدول الأخرى بالدول الناشئة لكن ذلك غير دقيق وغير مطابق للواقع، وعلى سبيل المثال تم إلحاق تركيا والمكسيك بهذه الدول لوجود بعض الشبه بينها وبين الدول الناشئة، لكن المدقق في واقع تركيا والمكسيك يجد أن هاتين الدولتين لا تحملان مواصفات الدول الناشئة والسبب في ذلك أنهما وإن امتلكتا القوة الديمغرافية وامتلكتا شيئاً من التصنيع إلا أنهما تملكان تصنيعاً واقتصاداً مرهونان بالدول الغربية الوصية عليهما، لذلك كان التقدم الصناعي فيهما يعود أثره ونفعه إلى أمريكا وأوروبا ولا يعود أثره ونفعه على تركيا والمكسيك نفسهما.
أما جنوب أفريقيا فتم الحديث عنها أحياناً على أنها دولة ناشئة من باب أن اقتصادها متميز بالنسبة لسائر دول القارة الأفريقية لكن إمكاناتها الصناعية ضعيفة ومرهونة للدول الغربية.
لذلك كان من الدقة اعتبار أن دول البريك وهي الصين والهند والبرازيل وروسيا هي وحدها التي ينطبق عليها مفهوم الدول الناشئة.
أما بقية دول العشرين وهي إندونيسيا وكوريا الجنوبية والأرجنتين والسعودية فهي ما زالت دولاً نامية لا تملك صفات التسارع في التصنيع الذاتي ولا التقدم في الاقتصاد وتم دمجها في مجموعة العشرين من باب إشراك أكبر القوى الاقتصادية النامية في العالم إما للاستفادة من أموالها في دعم المؤسسات المالية الدولية كالسعودية، وإما لتكون شاهد زور على الاتفاقيات الدولية التي يتم التوصل إليها لإعطائها الشرعية الدولية.
لقد تمكنت الدول الناشئة الأربعة (البرازيل والصين وروسيا والهند) –البريك- أن تفرض نفسها وحضورها بشكل قوي في المؤتمرات والمنتديات الاقتصادية، وقد أثبتت الأرقام قوة هذه الدول وخدمتها للاقتصاد العالمي، فقد نشرت مؤسسة التحويل الدولية التابعة للبنك الدولي دراسة تقول فيها: "إن القيمة السوقية لأسواق الأسهم في الاقتصادات الناشئة في العقد الماضي كانت أقل من 2 تريليون دولار في العام 1995م بينما تجاوزت في هذا العام الحالي رقم 5 تريليون دولار وشكَّلت ما نسبته 12% من قيمة الأسهم العالمية التي تصل إلى حوالي 40 تريليون دولار في الوقت الراهن".
لقد أقرت أمريكا وأوروبا بدور الدول الناشئة وظهر ذلك في مؤتمري قمة العشرين في لندن وفي ساوباولو حيث انعقدت قمة شارك فيها وزراء مالية ورؤساء البنوك المركزية في مجموعة العشرين.
ودعت مجموعة دول بريك إلى إحداث إصلاحات اقتصادية في العالم وخاصة في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، واستجابت قمة العشرين استجابة جزئية لتلك المطالب حيث قدم صندوق النقد الدولي مليارات الدولارات للأسواق الناشئة وتقدمت الصين بخطة إنعاش ضخمة بقيمة (586) مليار دولار ساهمت في تنشيط الاقتصاد العالمي والأسواق المالية.
وفي اجتماعها الأخير الذي عقد في روسيا أواسط شهر حزيران (يونيو) من العام الجاري 2009م في مدينة يكاتيرنبرغ في جبال الأورال طالب الزعماء الأربعة في بيان دول البريك بإصلاحات في النظام النقدي العالمي وفي إصلاح الأمم المتحدة نفسها فورد في البيان: "إننا نعتقد أن هناك حاجة ملحة لنظام نقدي عالمي مستقر، أكثر تنوعاً ويمكن التنبؤ باتجاهاته المستقبلية"، كما حث البيان على "استقرار النظام التجاري العالمي وكبح الحمائية والسعي لتحقيق نتائج شاملة ومتوازنة لجولة الدوحة للتجارة العالمية"، وطالب البيان بمنح الهند والبرازيل دوراً أكبر في الأسرة الدولية فقال: "إننا نعيد التأكيد على الأهمية التي نعلقها على وضع الهند والبرازيل على صعيد الشؤون العلمية ونتفهم ونؤيد تطلعاتهما في لعب دور أكبر في الأمم المتحدة"(الجزيرة نت 24/6/2009).
إن الصراع الدولي الاقتصادي بين أمريكا وأوروبا فسح المجال للدول الناشئة بلعب دور جديد حيث تريد أمريكا وأوروبا استمالة تلك الدول لتقوية الاقتصاد العالمي، فأوروبا طالبت أمريكا بتشريعات رقابية ملزمة للمؤسسات المالية وبإعادة صياغة النظام المالي العالمي، بينما أمريكا تبنت خطط إنقاذ تعتمد على التحفيز المالي فقط، وعلى إثر هذا الصراع خشيت كل من أمريكا وأوروبا من قيام الدول الناشئة بتبني السياسات الحمائية والانكفاء وبالتالي بروز قيادات سياسية معادية للغرب كما حصل في ثلاثينيات القرن الماضي عندما ظهرت النازية والفاشية على إثر فشل مؤتمر لندن في العام 1933م في الخروج من الأزمة.
لذلك وافقت أمريكا وأوروبا على تشجيع مشاركة الدول الناشئة في المؤسسات الدولية للاستفادة منها، وزادت مخصصات صندوق النقد الدولي بمبلغ (500) مليار دولار، وحوَّلت (250) مليار دولار أخرى لدعم التجارة العالمية.
قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند: "إن حقيقة أن دولاً مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل هي أربعة شركاء في مناقشة مستقبل الاقتصاد العالمي هو في حد ذاته أمر له دلالته العظيمة لأنها تشير إلى أن الزعماء الغربيين لم يعودوا يؤمنون بأنهم يستطيعون حل مشكلة الاقتصاد العالمي بمفردهم"، وأضاف: "أعتقد أننا نعرف منذ ثلاثينيات القرن العشرين الأخطار التي تحملها الحمائية، إن الحمائية يمكن أن تحول التحطم إلى انهيار ومن الأهمية بمكان ألا ينكفئ العالم على نفسه هذه المرة".
وقال الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا: "إن هناك قبولاً لفكرة أن مجموعة السبع لدول النخبة المتقدمة في العالم لم تعد قادرة على العمل بمفردها ولقد حان الوقت إلى التوصل إلى اتفاق بين الحكومات بشأن بناء هيكل مالي جديد للعالم فهذه أزمة عالمية وتتطلب حلولاً دولية".
إن تطور الدول الناشئة أمر لا مفر منه، ودول البريك الأربع تمثل نحو 40% من سكان العالم وَ15% من الناتج الإجمالي فيه، فالصين تقدمت في حجم الناتج الإجمالي لها وفي الصادرات السلعية من المركز العاشر في نهاية التسعينيات إلى المركز الثاني الآن.
وساعدت الصين أمريكا في الأزمة المالية فاشترت من أذون الخزانة الأمريكية ما قيمته 767.9 مليار دولار قبل شهر آذار (مارس) 2009م، بينما اشترت روسيا ما قيمته 138.4 مليار دولار (نوفوستي 16/6/2009م) ودَّمت الصين مئات المليارات من الدولارات لدعم دول منظمة شنغهاي (دول آسيا الوسطى السوفيتية السابقة)، وهو دليل على تعاظم قوتها الاقتصادية والدولية.
وأما البرازيل فاستعانت بمجموعة (الميركوسور) (تجمع دول أمريكا اللاتينية) وتحولت إلى قوة اقتصادية ضخمة ومستقلة تخدم القارة اللاتينية قبل أن تخدم الاقتصاد الأمريكي والعالمي، يقول الرئيس البرازيلي: "إن هذه الأزمة تسمح للدول باتخاذ قرارات جريئة تسمح للدول بأن تتمكن من وضع قواعد جديدة للعلاقات مع دول أمريكا الجنوبية فيما بينها، ومثلاً نحن اعتمدنا مع الأرجنتين تبادلاً تجارياً بعملتينا بدلاً من الدولار الأمريكي وهذا يمكن تطبيقه بين كافة دول أمريكا الجنوبية".
وأما الهند فبدأت تكتسح بصناعتها الأسواق الخارجية فضلاً عن اعتمادها على ضخامة سوقها الداخلي الذي تتوق إلى الدخول إليه جميع السلع الأجنبية.
لقد بدأت الجغرافيا السياسية بالتغير فعلاً مع بروز هذه القوى الناشئة والمستقلة، وكانت قمة العشرين في لندن الذي انعقد في بدايات العام الجاري نقطة تحول رئيسية في خريطة دول العالم الاقتصادية. وقد صرح وزير بريطاني بالقول بعد المؤتمر: "إن مجموعة الدول الثماني قد ماتت"، وأما المندوب الأمريكي ديفيد ماكروميك مساعد وزير الخزانة الأمريكية للشؤون الدولية فقال: "لم أسمع أحد يرفض مجموعة السبع ولكنني سمعت حديثاً عن أهمية أكبر لمجموعة العشرين".
فبروز الدول الناشئة كان حدثاً دولياً مهماً لأنه يعتبر أول اختراق لقواعد اللعبة الدولية التي فرضت على الدول النامية قيوداً وسدوداً تمنعها من التطور والتقدم منذ الحرب العالمية الثانية.
إلا أن نجاح دول البريك في تحطيم القيود وتدمير السدود يعتبر إشراقة أمل باسمة للشعوب المستضعفة وفي مقدمتها شعوب الأمة الإسلامية التي يجب أن تعلم أن هناك مجالاً متاحاً للتغيير، وأن بإمكان الدول أن تنهض وأن تشب عن الطوق ومثال الدول الناشئة تجربة ناجحة عليها أن تستفيد منها وأن تستوعب المتغيرات العالمية والدروس الدولية للخروج من حالة الدول الكانتونات والمحميات التي تسودها.
لقد حان الأوان لشعوب الأمة الإسلامية أن تخرج عن طوع الإملاءات الاستعمارية الأمريكية والأوروبية وأن تنهي كابوس الشلل والتخلف والتبعية الذي تحياه هذه الشعوب بسبب حكامها العملاء ليحدث التغيير الحقيقي الذي لن يغير الخريطة الجيوسياسية تغييراً جذرياً وحسب بل سيقلب الأوضاع الدولية رأساً على عقب.

ليست هناك تعليقات: