بيت المال في دولة الخلافة الإسلامية
الدولة الإسلامية لها نظام حكم متميز لا يشبه أي نظام آخر ولا يشبهه أي نظام آخر، فنظامها له خصوصية تنفرد فيها الدولة عن أي نظام آخر، وجعل الإسلام للنظام شكلاً متميزاً وطرازاً فريداً يختلف عن جميع أشكال أنظمة الحكم السائدة في العالم قديماً وحديثاً.
فأجهزة الدولة مثل أحكامها وقوانينها تمتاز عن الدول الأخرى في الشكل والمضمون، وفي الظاهر والباطن، وفي العرض والجوهر.
وسر هذا التميز والاختلاف لأجهزة الدولة الإسلامية عن سائر الدول الأخرى يكمن في كون جعل الكتاب والسنة أساساً ومقياساً لها، فكل قوانين الدولة وأجهزتها مأخوذة ومستوحاة من كتاب الله وسنة رسوله r.
وإذا كانت الدولة، أي دولة، عندما تقوم برعاية شؤون مواطنيها تحتاج إلى أموال وإلى إدارة للأموال، وهذا يعني ضرورة وجود أجهزة مالية وجهات معينة تتولى التصرف بالأموال العامة في الدولة، فإذا كانت الدولة لا تقوم ولا ترعى الشؤون إلا باستخدام الأموال، فإن الدولة الإسلامية من باب أولى أن تحتاج للأموال وللأجهزة المالية في رعايتها لشؤون المسلمين، وفي حملها للدعوة، ونشرها للإسلام في العالم.
وإذا كانت السياسة المالية العامة في الدولة الإسلامية ضبطها الإسلام بأحكام شرعية تفصيلية، وأناط الخليفة بتنفيذها، فإن مؤسسة بيت المال كانت العنوان الأبرز في تنفيذ تلك السياسة من خلال تلك الأحكام.
ويعرف بيت المال بأنه الجهة التي تختص بكل ما يرد إلى الدولة، أو ما يخرج منها مما يستحقه المسلمون من مال.
وهذا معناه أن أية أموال سواء أكانت على شكل نقد أو أرض أو بناء أو معادن أو عروض تجارية أو غير ذلك من ثروات تستحقها الرعية وفقاً لأحكام الشرع ولم يتعين ملاكها بل تعينت جهتها فإن هذه الأموال تكون حقاً لبيت مال المسلمين سواء أدخلت في حرزه أم لم تدخل.
وكما يفهم من ذلك التعريف أيضاً أن أية أموال بمختلف أشكالها إذا وجب صرفها على المستحقين المتعينين أو على أية مصالح للمسلمين لرعايتها وإدارتها أو أي حمل للدعوة فإن على بيت المال واجب إنفاقها وصرفها على أولئك المستحقين المتعينين وعلى تلك المصالح وعلى تكاليف حمل الدعوة. وتكون هذه الأموال حق على بيت المال سواء صرفت بالفعل أم لم تصرف. فبيت المال بهذا المعنى هو الجهة.
وقد فهم ذلك من قوله تعالى: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ((الأنفال/1). فهذه الآية الكريمة نزلت بعد انتهاء غزوة بدر واختلاف المسلمين على الغنائم، وجعلت للرسول r بوصفه رئيساً للدولة الإسلامية صلاحية توزيعها وفق ما يرى لمصلحة المسلمين، وكانت بذلك حقاً لبيت المال يتصرف بها ولي أمر المسلمين [الخليفة] بما يراه محققاً لمصلحتهم.
لكن مصطلح بيت المال كما يُطلق ويُراد به الجهة، يُطلق ويراد به المكان الذي يوضع فيه المال، وتصرف من الأموال التي كانت قد دخلت إليه كواردات للدولة.
وفي زمن الرسول r لم يخصص للمال مكان يوضع فيه؛ لأن الأموال التي كانت ترد لم تكن وفيرة ولا تكاد تفيض بشيء عما يوزع على المسلمين، وكان الرسول r يوزع الغنائم والأخماس بُعيد انتهاء المعارك. روى حنظلة وكان كاتباً لرسول الله r قال: "إِلزمْني وأَذكرني بكل شيء لثالثة"، قال: "فكان لا يأتي علي مال أو طعام ثلاثة أيام إلا أُذكِّره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه".
وظل الحال على ذلك طيلة أيام الرسول r والسنة الأولى من خلافة أبي بكر الصديق t، ولكن في السنة الثانية من حكمه خصَّص مكاناً في داره يضع فيه ما يرد إليه من أموال فكان ذلك إنشاء أول نواة لبيت المال.
وعندما تولى عمر بن الخطاب t الخلافة وكثرت الفتوحات وفتحت بلاد كسرى وقيصر، كثرت الأموال وانهالت على المدينة فخصص لها بيتاً، ودوَّن لها الدواوين، وعيَّن الكتاب، وفرض منها الأعطيات وجنّد الجند.
ومنذ ذلك الوقت وحتى سقوط الخلافة أصبح للمسلمين بيت للمال تستقر فيه الأموال التي ترد على الدولة وتحفظ فيه الدواوين وتُخرج منه الأعطيات وتعطى الأموال لمستحقيها.
ونظراً لتوسع الدولة وتعاظم الأموال وضعت الدواوين وعين لها أمناء يكونون مسؤولين عنها كما عين فيها الكتاب (الموظفين).
والديوان لغة يطلق ويراد به مكان جلوس الكتاب وحفظ السجلات، ويطلق كذلك ويراد به السجلات نفسها، وهناك تلازم بين المعنيين.
إن أول وضع للدواوين كان في عهد عمر t سنة 20 من الهجرة، وقبل ذلك التاريخ لم يكن هناك دواوين ولكن كان هناك كتبة أو موظفون يقومون بجمع الأموال، فقد عيّن مُعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي كاتباً على الغنائم، والزبير بن العوام كاتباً على الصدقات، وحذيفة بن اليمان كاتباً على خرص الحجاز، وعبد الله بن رواحة على خرص خيبر، والمغيرة بن شعبة كاتباً على المداينات والمعاملات إلا أنه لم تسجل له دواوين ولم يُخصص مكان لها للحفظ والكتابة.
ومنذ عام عشرين للهجرة نظم العمل المالي في بيت المال ووضعت الدواوين وعين لها أمناء ووظف فيها كتبة وأصبحت أمور بيت المال غاية في التنظيم والدقة في تطبيق السياسات المالية الإسلامية والأحكام الشرعية.
ويسمى المسؤول العام عن بيت المال الخازن وهو الذي يتولى عمل الدواوين جميعها ويرأس كل ديوان أمين.
وتقسم الدواوين إلى قسمين: قسم الواردات، وقسم النفقات. أما الواردات فتشمل الدواوين التالية:
1) ديوان الفيء والغنائم والأنفال: وما يزيد عن الأموال الناتجة عنه في بيت المال يُصرف للناس على شكل أعطيات.
2) ديوان الخراج والجزية: وهو مورد دائمي ينفق منه على أرزاق الجند ورواتب الموظفين، وما يزيد منه من أموال يبقى لما ينوب المسلمين من حوادث أو كوارث تلم بالمسلمين.
3) ديوان الصدقات: ويضم أموال الزكاة بكافة أنواعها، وتوضع في حرز خاص داخل بيت المال لا يختلط بغيره من الأموال، وما يزيد من الأموال في هذا الديوان يحفظ حتى يوجد من الأصناف الثمانية فيصرف عليها.
4) ديوان العشور: ويضم الأموال التي تجبى من تجارات الحربيين والمعاهدين على المسالح.
5) ديوان خمس الركاز: وهو المال المركوز المحدود فيؤخذ خمسه لبيت المال.
6) دواوين الملكية العامة وملكية الدولة والأموال الموروثة عمن لا وارث لها: وتشمل هذه الدواوين أموالاً طائلة توزع منافعها على جميع المسلمين وعلى الدولة.
7) ديوان الضرائب: وهو ديوان يتعلق بالأموال التي تم جبايتها من القادرين لسد حاجات الرعية في حالة عدم كفاية إيرادات الدواوين السابقة ويتم جمعها لإنفاقها في خمس حالات هي:
1- لسد النفقات الواجبة على بيت المال للفقراء والمساكين وابن السبيل وللقيام بفرض الجهاد.
2- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على سبيل البدل كنفقات الموظفين وأرزاق الجند.
3- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه المصلحة والإرفاق دون بدل، كإنشاء الطرقات الضرورية واستخراج المياه وبناء المستشفيات والمدارس والمساجد وما شابهها بحيث ينال الأمة ضرر من عدم وجودها.
4- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه الضرورة كحوادث مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو أو ما شاكل ذلك.
5- أن تفرض الدولة الإسلامية ضرائب لتسديد ديون اقترضتها للقيام بما هو واجب على جميع المسلمين من كل ما هو داخل في أية حالة من الحالات الأربع السابقة.
وفرق كبير بين مفهوم الضرائب في الإسلام الذي يجعل الدولة لا تلجأ إليه إلا في حالات نادرة وبين الدول الرأسمالية التي تعتبر الضرائب من أكبر مواردها وترهق دافعي الضرائب من الناس بتمويل نفقاتها وحماية ثروات الأغنياء.
وحتى الملكيات العامة في الدول الرأسمالية فإنها لا تذهب للناس وإنما تذهب للدولة فتزيد الفقراء إرهاقاً وفقراً، بينما في الدولة الإسلامية لا تأخذ الدولة الإسلامية من أموال الملكية العامة فلساً واحداً وإنما يتم توزيعها كمنافع على جميع المسلمين لا فرق بين الأغنياء منهم والفقراء، فيما تكتفي الدولة الإسلامية بالإنفاق على مصالحها من أموال ملكية الدولة فقط. وهذا التفريق بين الملكية العامة وملكية الدولة غير وارد في الدول الرأسمالية.
وأما القسم الثاني المتعلق بدواوين النفقات فيشمل:
1) ديوان دار الخلافة: ويغطي نفقات رئيس الدولة ومعاونيه ومستشاريه.
2) ديوان مصالح الدولة: ويغطي نفقات كبار موظفي الدولة من أمير الجهاد والولاة والقضاة ومدراء المصالح والدوائر والإدارات والمرافق العامة التابعة لها.
3) ديوان الصدقات: ويشمل أصحاب المصارف الثمانية المنصوص عليها وينفق عليهم من واردات ديوان الصدقات في حالة الوجود.
4) ديوان العطاء: ويغطي الفقراء والمحتاجين والمدينين والمزارعين وأصحاب المزارع وينفق عليهم من واردات ديوان الفيء والخراج.
5) ديوان مصارف الملكية العامة: وينفق على المستحقين من واردات ديوان الملكية العامة.
6) ديوان الطوارئ: ويشمل كل ما يطرأ على المسلمين من حوادث مفاجئة كالزلازل والمجاعات وما شاكلها، وينفق عليها من واردات ديوان الفيء والخراج ومن واردات ديوان الملكية العامة.
7) ديوان الموازنة العامة وديوان المحاسبة العامة وديوان المراقبة:
ويتعلق ديوان الموازنة العامة بتحضير موازنة تقديرية مستقبلية للدولة وفقاً لما يراه الخليفة، بحيث تعقد مقارنة بين النفقات والإيرادات الفعلية للدولة مع النفقات والإيرادات المقدرة للأعوام القادمة.
وأما ديوان المحاسبة العامة: فهو الديوان المتعلق بضبط أموال الدولة أي محاسبة موجوداتها ومطلوباتها وإيراداتها ونفقاتها وما تحقق منها وما هو مستحق.
وأما ديوان المراقبة فهو الديوان الذي يقوم بمراقبة وتدقيق البيانات المحاسبية المتعلقة بأموال الدولة ومصالحها، والتأكد من صحة الموجودات والمطلوبات والإيرادات والنفقات، ومحاسبة المسؤولين عن تحصيل وحيازة وصرف تلك الأموال، كما يقوم بمراقبة ومحاسبة جميع دواوين الدولة وموظفيها.
والخلاصة أن بيت المال في دولة الخلافة هو ليس مجرد جهة أو مكان لجلب وحفظ الأموال وإنفاقها وتوزيعها كيفما اتفق، وإنما هو آلية شرعية لتطبيق السياسات المالية والاقتصادية الإسلامية وفقاً للأحكام الشرعية المستفادة من كتاب الله وسنة رسوله r ويختلف كلياً عن وزارة المالية في الدول الرأسمالية المعاصرة التي تطبق السياسات المنفعية والاستعمارية والتي تحمي ملكيات الأثرياء وثرواتهم الطائلة على حساب الفقراء المعدمين.
فوزارات المالية الرأسمالية من ناحية واقعية تتبنى سياسات من شأنها أن تؤدي إلى تمزيق المجتمع وخلق طبقات متطاحنة متصارعة متباغضة ومتحاسدة، ولا تزيد الأغنياء إلا غنىً، ولا تزيد الفقراء إلا فقراً.
بينما بيت المال في دولة الخلافة يطبق أحكام السياسة الشرعية الاقتصادية المثلى التي تضمن إشباع حاجات جميع أفراد الرعية الأساسية إشباعاً كاملاً فرداً فرداً، وتمكينهم من إشباع حاجاتهم الكمالية بقدر المستطاع.
فبيت المال في دولة الخلافة آلية تنفيذية لترجمة السياسات والأحكام الشرعية المالية والاقتصادية للدولة ترجمة عملية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق