الذين خلطوا الدين بالعلم لا هم أخذوا بالدين ولا أخذوا بالعلم
برزت مسألة خلط الدين بالعلم في هذه الأيام في موضوع اثبات بداية شهر رمضان وبداية شهر شوال بروزاً واضحاً، وما أكسب هذا البروز هو تلك الأهمّية التي يترتب عليها ثبوت أحكام الصوم والفطر وتأثير هذه الأحكام على عامة المسلمين.
وشمّر بعض الشيوخ الحاقدين على حزب التحرير عن سواعدهم، وراحوا ينفثون سمومهم اتجاه الحزب مُحاولين تخطئته في آرائه الواضحة بخصوص الموضوع، بقصد النيل منه والتشويش عليه، وشاركهم في عداوتهم للحزب بعض الشيوخ الجهلة الذين يُردّدون كلام معلميهم الحاقدين لظنّهم أنّهم علماء مُقتدرين، وتبعهم في ذلك بعض العامة من أنصاف المُثقفين والمُتعلمين المُتفيقهين الذين يخوضون في ما لا يعرفون، ويحشرون أنوفهم فيما لا يعلمون، ويتبعون كل ناعق يهرف بما لا يعرف، ويهذي بما لا يعني، يفعلون ذلك كله لا لشيء إلا ليحجزوا لهم مكاناً قذراً في قائمة أذناب الحكام العملاء بقصد الشهرة والتصدر والرياء.
وقبل الخوض في موضوع الخلط بين الدين والعلم في هذه المسألة، لا بُد من معرفة أنّ العلم المقصود به هنا هو علم الفلك وحساباته وعلم الفيزياء، وليس العلم الشرعي.
لنأخذ أولاً الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة بهذا الموضوع ونفهمها فهماً تشريعياً صحيحاً:
- قال صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له " . (مسلم)
- قال :" إنّما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غُمّ عليكم فاقدروا له " . (مسلم)
- قال صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين" . ( مسلم )
- قال صللا الله عليه وسلم : "
- " إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا - يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين - " ( البخاري )
هذه أبرز الأحاديث التي تناولت مسألة علامات الصوم والفطر، فلاحظوا أنّها ركّزت فقط على الرؤية الحقيقية بالعين، فالألفاظ التي استخدمت فيها: تروا الهلال، تروه، لرؤيته، وكلها تُشير إلى الرؤية البصرية، ولا يوجد فيها أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد تدل على جواز استخدام الوسائل العلمية في الرؤية، كما لا يوجد فيها ما يدل على استخدام الحساب الفلكي في معرفة دخول شهر رمضان وشهر شوال.
بل إنّ حديث " إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب " تأكيد على عدم استخدام الحساب الفلكي في هذا الموضوع والاكتفاء فقط بالرؤية البصرية.
فمن أين يأتي الشيوخ ومن يُسمون بالعلماء المتطورين بموضوع الحسابات الفلكية؟ فالأحاديث لا يوجد فيها أي دليل يدل على اقحام الفلك بالموضوع، بل هي أصلاً تمنع استخدامه وذلك من خلال التأكيد على فكرة " إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب ".
وكل العلماء المُعتبرين، وأصحاب المذاهب الأربعة لم يأتوا على ذكر الحساب الفلكي في شرحهم للأحاديث وفي استنباطهم الأحكام منها، فحشر علم الفلك بالرؤية هو أمرٌ مُحدثٌ مُبتدع ٌ لا أصل له.
ثمّ إنّ أهم ما في هذه الأحاديث هو خطاب الوضع، وهو الذي يجعل الخطاب التكليفي في وضع مُعيّن، وبالذات في وضع السبب، فالله سبحانه جعل الرؤية سبباً في إثبات الحكم، أي في وجوده، أي جعلها علامة عليه، أو مُعرّفاً له، فإذا عدم السبب عدم الحكم واذا وجد السبب وجد الحكم، ومعنى ذلك أنّ وجود الرؤية تدل على وجود الحكم وانعدامها يدل على انعدام الحكم.
فلو شرح شيوخ السلاطين للناس مفهوم الرؤية بهذه الطريقة البسيطة لقطعوا الطريق على المُشوّشين، وعلى الذين يخلطون الأحكام بعلم الفلك والحسابات غير المطلوبة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم سهّل لنا الموضوع، وبسّطه، ورفع عنّا مشقة التعمق بعلوم الفلك والفيزياء، وطلب منّا فقط الرؤية، وجعلها وحدها المُعرّف لوجود الحكم، لكنّ هؤلاء يأبون إلا أن يُعقّدوا لنا ديننا، ويشقّوا علينا أحكام الشرع علينا مع أنّها بسيطة وسهلة وواضحة.
لقد تحوّل الكثير من المفتين في وزارات الأوقاف في بلاد المسلمين إلى علماء فلك، أو إلى شركاء لعلماء الفلك، فصاروا يستدلون بنتائج مراصد الفلك أكثر ممّا يستدلون بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك شيوخ آخرون عقّدوا الموضوع أكثر وطالبوا بدرج الموضوع ضمن دائرة القضاء، فهذا شيخ سلفي يريد مجلس افتاء وقاضي شرعي وكأنّ المسألة مسألة خصومة واجتهاد، ولا يكلّف نفسه عناء قراءة شرح الأحاديث وبيانها للناس، وبيان مفهوم السبب وخطاب الوضع منها.
وهذا شيخ آخر لا يثق بالشهود من الأقطار الاسلامية البعيدة تنطعاً ومن دون سبب وجيه، ويدّعي أنّ كل شعب مُضطر للأخذ بدار الفتوى في بلده حتى ولو أنّه لا يثق بحكومة بلده.
فانظروا إلى هذا المنطق الأعوج، يدَعون الأخذ بالشهود المسلمين العدول، ويأخذون بدار الفتوى التابعة للحكام الجواسيس.
وامّا أنصاف المُثقفين والمُتفيهقين فيدلون بدلوهم الفارغ ويقولون بأنّهم لا يرضون بأنْ يُسلّموا عقولهم إلا لأهل العلم والاختصاص، ظانّين – جهلاً وحمقاً – أنّ علماء الفلك هم الذين يحسمون مثل هذه المسائل، علماً بأنّ هؤلاء الفلكيين غالباً ما يُصدرون أحكاماً تتصادم مع الرؤية الصريحة والواضحة، وفي دراسة سعودية شاملة لستين عاما على رصد الأهلة أكّدت أنّ حوالي ثلثي حالات الرصد الفلكي كانت تقول باستحالة الرؤية بينما الشهود يرون بأمّ أعينهم الأهلة، فيؤخذ برؤية الشهود ويُهمل الفلك.
فأي علمٍ وأي فلكٍ هذا الذي ينفي ما هو مُشاهد عياناً؟ فبئس هذا العلم وبئست تلك المعرفة.
ثمّ ما قيمة أنْ نثق بنتائج المراصد الفلكية ونترك أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإنْ فعلنا ذلك نكون قد تركنا أحاديث نبيّنا وأخذنا بظنون الفلكيين المضطربة.
على أنّ هؤلاء المُتشدّقين بالفلك هم في الواقع جبناء لا يأخذون إلا برأي حكوماتهم الباطلة، فما تقوله مجالس افتاءات حكوماتهم ووزارات أوقافهم يلتزمون بها من دون اي اعتراض، فهم جبناء جهلاء لا يخرجون عن سياط جلاديهم وبساطيرحكامهم .
إنّ أمثال هؤلاء الشيوخ وهؤلاء المُهرطقون من أذناب الحكام العملاء لم يأخذوا بالأحكام الشرعية، ولم يأخذوا بما يسمّونه علماً، فهم استسلموا لتعليمات حكوماتهم الساقطة التي تُصدر أحكاماً متناقضة تختلف مع بعضها البعض، لا لشيء إلا لإضعاف هيبة رمضان الكريم، ولمنع توحيد المسلمين حتى في العبادات.
احمد الخطواني 04 – 05 - 2022