إنقلاب النيجر وكنس الوجود الفرنسي من افريقيا
تأتي أهمية الانقلاب الذي وقع في النيجر في السادس والعشرين من شهر يوليو- تموز الماضي من كونه وقع في إحدى أهم المُستعمرات الفرنسية المُتبقّية لفرنسا في أفريقيا، فمساحة النيجر تبلغ مليون ومائتي كيلو متر مربع، وعدد سكانها يبلغ خمسة وعشرون مليون نسمة، يُشكّل المُسلمون منهم نسبة 99.3 % من السكان.
تعتمد فرنسا في تشغيل محطاتها النووية التي تُزوّدها بـ 35 % من احتياجاتها من الكهرباء على يورانيوم النيجر، بينما تعتمد سائر الدول الأوروبية في طاقتها الكهربائية على يورانيوم النيجر بنسبة 25 % من احتياجاتها.
وتمتلك النيجر بالإضافة إلى اليورانيوم الكثير من الثروات الأخرى ومنها النفط والذهب، لكنّه وبالرغم من كل هذه الثروات فإنّ النيجر وبسبب الاستعمار الفرنسي الشرس تُعتبر أفقر دولة في العالم حيث الفقر فيها مُدقعاً، فدخل إثنان من كل خمسة من سكان النيجرلا يتجاوز الـ 2 دولار يومياً.
وفي النيجر توجد قاعدة عسكرية جوية وأرضية لفرنسا بداخلها 1500 جندي فرنسي، وفيها أيضاً قاعدة عسكرية أخرى لأمريكا تحتوي على أكبر عدد من الطائرات المُسيّرة وبداخلها 1100 جندي أمريكي.
وخرج من بين هذه القواعد والحشود العسكرية الفرنسية والأمريكية الضخمة بضعة من جنود الحرس الرئاسي بقيادة عبد الرحمن تشياني في انقلاب مُفاجئ بقيادة ضباط تدربوا في السابق على أيدي القوات الأمريكية، فأطاحوا بحكومة محمد بازوم المُنتخبة، واستولوا بسهولة على السلطة، فيما وقف الجيش النيجري مُتفرّجاً إزاء الانقلابيين من الحرس الرئاسي لا يُحرّك ساكناً، ثمّ ما لبث الانقلابيون أن سيطروا على الجيش نفسه، وأجروا فيه تغييرات شاملة، وضعوا بموجبها رجالهم في المناصب المهمة التي تتحكم بمفاصل الجيش، فعيّنوا موسى سالاو برمو رئيساً للأركان وهو رجل معروف بصلاته المتينة بالأمريكان، حيث حارب معهم الجماعات الاسلامية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء لمدة طويلة.
فما كان هذا الانقلاب لينجح قط في النيجر لولا تواطؤ أمريكا مع الانقلابيين، وما كانت فرنسا لتقف مكتوفة الأيدي أمام الانقلابيين لولا الوجود العسكري الأمريكي القوي في النيجر، لا سيما وجود القاعدة الأمريكية المُضادة والمُوازنة للقاعدة الفرنسية فيها.
لقد دخلت أمريكا عسكرياً إلى القارة الافريقية في العام 2008 من خلال قوتها العسكرية المُخصّصة لافريقيا والمُسمّاة ( أفريكوم )، ثمّ شرعت بتمويل عمليات تدريب وتسليح الجيوش الافريقية في المستعمرات الفرنسية تحت ذريعة مُحاربة الارهاب، ومُنذ دخول (أفريكوم ) إلى افريقيا وقع أحد عشر انقلاباً في عدة دول افريقية على يد قوات عسكرية درّبتها أمريكا بشكلٍ خاص.
وتقول أمريكا بأنّها أنفقت مُنذ العام 2012 ما قيمته 500 مليون دولارعلى النيجر لوحدها، فزوّدتها بالمعدات ودرّبت جنودها، وأنشأت علاقات عمل وعمالة مع ضباط جيشها، وتبيّن أنّ النيجر كانت أكثر دولة افريقية من المستعمرات الفرنسية السابقة التي تلقّت مساعدات أمريكية عسكرية، فأمريكا استثمرت في النيجر الكثير من الأموال لأهميتها البالغة، وتنافست أمريكا مع فرنسا على النيجر في عدة انقلابات غير حاسمة إلى أن بلغت انقلاباتها النهاية مع هذا الانقلاب الأخير الذي يبدو أنّه كان حاسماً في طرد فرنسا من النيجر.
والناظر في تصريحات الطرفين تجاه الانقلاب يجد التصادم جليّاً بين فرنسا وأمريكا إزاءه، وذلك من خلال اللغة التي تتحدّث بها كلاً من الدولتين، ففرنسا تُصرّ على إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى سدة الحكم، ولا تقبل الاعتراف بسلطة الانقلابيين الجديدة في النيجر، بينما أمريكا تتعاون مع الانقلابيين صراحةً وتُنادي بضرورة الحل الديبلوماسي، وتختار( الواقعية ) كلغة سياسية للتعامل مع الانقلابيين، وهذا يعني من ناحيةٍ عملية الاعتراف بانقلابهم، ومنحهم الوقت الكافي لتثبيت سلطتهم.
فأنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي يقول في حديثٍ له مع الاذاعة الفرنسية:
" الديبلوماسية هي السبيل الأفضل لحل هذا الوضع "، وأمّا المُتحدّث باسم الخارجية الأمريكية فيقول:" لا نزال نتأمّل، لكنّنا أيضاً واقعيون جداً بالنسبة لنجاح المسار الديبلوماسي"، وبعد أنْ التقت فكتوريا نولاند مبعوثة وزارة الخارجية الأمريكية بقادة الانقلاب، ومنهم رئيس الأركان الجديد العميد موسى سالاو برمو وقالت:" لقد أجريت معهم محادثات صريحة وصعبة وإنّنا ننظر بواقعية"، وأمّا رئيس الأركان الامريكي فكان من قبل قد صرّح بأنّه يتوقع أنّ الانقلابيين لن يتراجعوا، وهذا يعني من ناحية عملية أنّ أمريكا هي التي لن تتراجع عن هذا الانقلاب.
وعلى عكس الرئيس المخلوع بازوم الذي أظهر تأييداً شديداً لفرنسا واعتبرها شريكاً أمنياً واقتصادياً استراتيجياً لبلاده، أظهرالانقلابيون الجدد كراهيةً شديدةً لفرنسا، وألغى المجلس العسكري الجديد بقيادة عبد الرحمن تياني خمس اتفاقيات عسكرية معها، واتخذ سياسات انفصالية عن فرنسا تؤدي في النهاية إلى خروج الفزنسيين نهائياً من النيجر.
وانقلاب النيجر هذا هو الثالث على التوالي الذي تُدبّره أمريكا بعد انقلابي بوركينا فاسو ومالي في غضون أقل من عامين في منطقة غرب افريقيا، وهو سيفضي في النهاية إلى كنس النفوذ الفرنسي من جميع مُستعمراتها السابقة في افريقيا.
لعل هذه الانقلابات ستؤدي إلى خلق طبقة سياسية جديدة واعية ومُخلصة في افريقيا تنقلب على الأمريكان أيضاً، وتنجح في كنس نفوذهم، وكنس جميع النفوذ الأجنبي عموماً من افريقيا، وتُفضي - بمشيئة الله سبحانه وتعالى - إلى قيام دولة اسلامية حقيقية هي دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق