بعد مرور خمس وعشرين سنة على توقيع معاهدة وادي عربة الخيانية بين الدولة الأردنية وكيان يهود، وبعد سنة من إعلان الملك عبد الله الثاني في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2018 إيقاف العمل بالملاحق الخاصة بالمنطقتين حسب البروتوكول القانوني الذي يسمح للأردن بإيقاف تجديد تأجيرهما لكيان يهود، تمّ بالفعل تسلّم الأردن للمنطقتين واستعادة السيادة عليهما، وقام الملك بزيارتهما وألقى خطاب (التحرير) مُنتشياً ومُعلناً تحرير كل شبر من أرض الوطن، فما هي القصة؟ وما هو المغزى منها؟ وما هي الفائدة التي يجنيها كيان يهود من تخليه عنهما؟
كان كيان يهود قد سيطر على منطقة الباقورة الواقعة شرق نهر الأردن في الأغوار الشمالية والتي تبلغ مساحتها 6000 دونم بعد نكبة عام 1948، فيما احتلت منطقة الغمر الواقعة شرق وادي عربة في جنوب الأردن والتي تبلغ مساحتها 4000 دونم بعد هزيمة عام 1967، وتمّ تجديد السيطرة عليهما قانونياً عام 1994 عند توقيع اتفاقية وادي عربة وتمّ منحهما وضعاً خاصاً يتمكن المزارعون اليهود من خلاله استغلالهما بحرية تامة، دون أي قيد من جانب الأردن لمدة 25 سنة من تاريخ توقيع الاتفاقية، وقد انتهت المدة في هذه الأيام، وتمّت إعادتهما إلى السيادة الأردنية من دون أي عراقيل، وعلى غير عادة يهود في المماطلة في تطبيق الاتفاقيات المتعلقة بالأراضي المحتلة.
لقد شرح نتنياهو رئيس حكومة كيان يهود تلك الملابسات فقال في خطاب له أمام الكنيست بمناسبة مرور 25 عاماعلى توقيع اتفاقية وادي عربة: "لدينا مصلحة واضحة بوجود مُعاهدة سلام مع الأردن، فهي دولة تقع على امتداد أطول حدودنا، وعلى أقرب مسافة من البحر الأبيض المتوسط، وأهمية الاستقرار في الأردن كما في مصر واضحة، وهما الدولتان المُوقعتان على اتفاقيات سلام، وأهمية استمرار المُعاهدتين مصلحة واضحة لنا، ونحن نملك القوة لمنع استيلاء أي جهات إسلامية على الدولتين، ولن أخوض في التفاصيل".
فالمسألة إذاً بحسب نتنياهو هي أكبر من مجرد تسليم قطعتين من الأرض للأردن، فالمسألة تتعلق بالخوف على النظامين المصري والأردني، خاصة النظام الأردني من السقوط على أيدي إسلاميين، واستعداد كيان يهود للتدخل لحمايتهما من السقوط، وهذه مصلحة أكبر من أي مصلحة أخرى، فنتنياهو يرى أهمية بالغة في استمرار معاهدتي السلام مع مصر والأردن بالرغم من عدم شعبيتهما.
وعدّد نتنياهو أنواع العلاقات القائمة مع الأردن بفضل اتفاقية وادي عربة ووصفها بأنّها علاقات استراتيجية تشمل الأمن والاستخبارات والمياه والتجارة، وقال: "نحن نُساعد الملك الأردني بطرق سرية لا أعتقد أنّه ينبغي أنْ أذكر التفاصيل، وهذا عنصر مُهم لأمننا"، ويُفسّر الإعلامي اليهودي إيدي كوهين وهو ابن المؤسّسة الأمنية كلام نتنياهو المجمل بأنّ ما يجري الهدف منه هو: "تحسين صورة الملك، وأنّ هذا الأمر مُتفق عليه بين الدولتين، ولا يؤثّر عندنا إن ظهر الملك على أنّه فتح القدس أو حرّر فلسطين كصلاح الدين، وذلك بهدف تهدئة الأمور في الأردن وتثبيت الاستقرار المُهدّد بانفجار كبير، واستمرار المظاهرات والاحتجاجات، وقد اتفقنا مع الملك على هذه اللعبة، فمصلحتنا كبيرة مع الأردن في كل النواحي، وهو في وضع لا يُحسد عليه، فأرجعنا المنطقتين بعد انتهاء مدة الاتفاقية، وبالمقابل نحن كسبنا الأردن، والعلاقات بيننا وبين الدولة الأردنية أكبر ممّا يتخيله عقل".
فهذا هو السبب الحقيقي لإعادة الباقورة والغمر للأردن وهو الهيمنة على الدولة الأردنية وربط مُستقبلها بإحكام بمُستقبل كيان يهود، وليس مُجرد السيطرة على عشرة آلاف دونم فقط.
لقد أسست بريطانيا الكيان الأردني ليكون في الأساس حارسا أمينا لكيان يهود، وحاميا لوجوده، ونظر الغرب للأردن بشكلٍ عام كصنو وتوأم لكيان يهود، يُناصر أحدهما الآخر، ويُنسّق كل منهما مع الآخر في كل القضايا الحسّاسة وأوّلها القضايا الأمنية، خاصة وأنّ هذه القضايا تمس وجود كلٍ منهما.
فالقضية باختصار هي قضية وجود كيان يهود في فلسطين، وكيفية الحفاظ عليه من خلال استمرار وجود الدولة في الأردن، واتفاقيات السلام المزعوم بينهما لها مفاعيل ومواقيت، ومن الأفضل لكلا الدولتين الالتزام بها من أجل استمرار العلاقة العضوية التاريخية بين الدولتين، ومن هنا جاء تسليم الباقورة والغمر لتأكيد هذه العلاقة، ولتثبيت الاستقرار في الأردن خاصةً بعد أنْ تعرض للاهتزاز بفعل الضغوط الأمريكية عليه، وبسبب قطع السعودية للمساعدات المالية عنه بأمر من أمريكا، فشعر كيان يهود بالخوف على مُستقبله بسبب تخلخل الأوضاع في الأردن، فقام بما قام به لتهدئة الأجواء وإعادة الثقة بالنظام إلى حدٍ ما، فسلّم المنطقتين، وظهر للرأي العام أنّ الدولة والملك في حالةٍ سياسيةٍ حسنة.
والحقيقة أنّ تحرير الأرض لا يمكن أنْ يأتي بالتفاوض ولا بالاتفاقيات، فالقتال وخوض الحروب هما الوسيلة الوحيدة لتحرير أي أرض اغتصبت في أي بقعة في العالم، وقبل استعادة الأرض يجب استعادة الهيبة والسيادة، ولا يمكن استعادتهما إلا بقوة الأمّة الذاتية وليس بالمعاهدات الدولية، وهذه القوة الذاتية للأمّة لا بُدّ وأنْ تعتمد على قوة المبدأ الذي يدين به الناس في الأردن وفي سائر بلاد المسلمين ألا وهو الإسلام، فبالإسلام فقط يمكن إرجاع السيادة والهيبة والأرض، ولكنّ الإسلام لكي يكون فاعلاً يحتاج إلى دولة وسلطان، لذلك كان لا بُدّ من إيجاد دولة الإسلام، الخلافة على منهاج النبوة؛ لتقوم بدورها العالمي في حمل الدعوة الإسلامية، وإحقاق الحق، وإنصاف المظلومين، وتحرير البلاد والعباد من رجس الظالمين، ومن بغي المُعتدين، وكفِّ أيدي المستعمرين، وكنس وجودهم من ديار المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق