الجمعة، 9 ديسمبر 2016

أثر التوجهات ( الشعبوية ) على الوضع الدولي


أثر التوجهات (الشعبوية) على الوضع الدولي
بقلم أحمد الخطواني



برزت في الآونة الأخيرة في الدول الغربية توجهات قومية حادّة تمثّلت في صعود اليمين القومي المتطرف في عدة بلدان أوروبية، وتُوّجت أخيراً بفوز دونالد ترامب في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، ففي بريطانيا أثّر حزب الإستقلال البريطاني بزعامة نايجيل فاراج على نتيجة الاستفتاء الذي تمّ إجراؤه حول بقاء أو خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة مفاجئة لبريطانيا ولأوروبا على حدٍ سواء وهي خروج بريطانيا من الاتحاد، وبداية تفكّك أوروبا، وفي فرنسا زادت شعبية الجبهة القومية بزعامة ماري لوبان التي تتبنّى سياسات قومية مُتطرفة، وفي نفس الوقت فاز فرانسوا فيون الذي يُمثّل أقصى اليمين في الإنتخابات التمهيدية لحزب التجمع من أجل الجمهورية على ألان جوبيه الذي يُمثّل تياراً وسطياً في الحزب، في حين تُظهر الاستطلاعات تراجع شعبية الحزب الاشتراكي الحاكم، وهو ما أدّى إلى تنازل الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند عن الترشح للإنتخابات الفرنسية بعد أشهر، وكذلك نجحت أحزاب يمينية مُتطرفة أخرى في عدّة دول أوروبية في الوصول إلى سدة الحكم، ورُبّما ستفوز أحزاب يمينية مُماثلة أخرى في المُستقبل خاصة بعد فوز ترامب في أمريكا.

لقد عزّز فوز دونالد ترامب بالرئاسة من قوة التيار القومي (الشعبوي) في أمريكا وفي العالم، فأضاف إلى هذا التيار رافداً حيوياً بات يُهدّد الوضع الدولي الحالي تهديداً وجودياً، ويؤثّر ُفي طبيعة العلاقات الدولية تأثيراً بيّناً، وقد وصف الفيلسوف والمُنظّر الأمريكي المعروف فرانسيس فوكوياما نجاح ترامب بأنّه نُقطة تحوّل مفصلية للنظام العالمي وليس فقط بالنسبة للسياسة الأمريكية، واعتبر أنّ فوزه في الإنتخابات يُدشن عصراً جديدا من القومية (الشعبوية).

ولعل من أهم الأسباب الإقتصادية لبروز تيار ( الشعبوية ) في العالم الغربي يعود إلى أنّ النُخَب الرأسمالية المُؤثّرة في النظام الرأسمالي في الغرب قد وجدت في نموذج العولمة السائد في العلاقات الدولية منذ عقود بداية انتقال الثقل الإقتصادي من الغرب إلى الشرق، واستفادة دول مثل الصين والدول الصاعدة الأخرى، ودول شرق جنوب آسيا من العولمة أكثر ممّا استفادت منها الدول الغربية، فالعولمة سمحت للصين اكتساح الأسواق العالمية، ومكّنت دولاً صغيرة في اسيا وفي أمريكا اللاتينية من التنافس مع الدول الغربية على تصدير السلع الصناعية إلى أهم وأضخم الأسواق العالمية، فلاحظوا مثلاً أنّ انتقال المصانع ضمن فكرة العولمة إلى البلدان الآسيوية مثل كورية الجنوبية وتايوان وماليزيا واندونيسيا والفلبين وفيتنام وغيرها، أدّى إلى خسارة أمريكا والدول الأوروبية لإمتيازات كثيرة، منها مثلاً تراجع دخل الطبقة الوسطى - وهي التي تُشكّل غالبية السكان في الدول الغربية – في أمريكا وبريطانيا بشكلٍ خطير، فظهر أنّ 80 % من العائلات الأمريكية و70 % من العائلات البريطانية لم يتحسّن دخلها من جرّاء سياسات العولمة، فدخلها إمّا أنّه قد تجمّد أو انخفض.

لذلك مالت أغلبية الناخبين في الدول الغربية إلى مصالحها، واتجهت نحو تأييد الأحزاب ( الشعبوية ) التي تضع المصالح القومية فوق كل اعتبار، والتي عادت إلى تبني بعض السياسات الحمائية في الإقتصاد، وتخلت عن سياسلت العولمة وحرية التجارة.

لذلك لم يكن مفاجئاً أنّ ترامب أعلن أنّه سيقوم في اليوم الأول من استلامه للحكم في العشرين من يناير ( كانون ثاني ) المُقبل بإلغاء مشروع الشراكة عبر الهادي الذي وقّعه الرئيس أوباما مع اثنتي عشرة دولة، وليس غريباً أنْ يُصرّح ترامب بأنّه سيعمل على إعادة المصانع الأمريكية إلى الوطن، وأنّه سيُعيد التفاوض حول اتفاقية النافتا مع كندا والمكسيك، وأنّه سيعمل على تعديل بنود منظمة التجارة العالمية التي سمحت للصين بعد دخولها إليها بزيادة نفوذها الاقتصادي في العالم.

فالسياسات (الشعبوية) التي يتبنّاها ترامب مبنية في أساسها على المنافع الإقتصادية، لذلك نجد ترامب في خطاباته يتجاهل النظام العالمي ويعتبر المؤسسات الدولية مجرد أدوات إنْ لم تستفد منها أمريكا فستقوم بإهمالها وإضعاف عملها، فالنظرة لديه اقتصادية بحتة ولا تعنيه كثيراً مصالح الدول الأخرى، حتى أنّه يريد التراجع عن اتفاقيات البيئة كونها تُقيّد إنتاج المصانع الأمريكية.

وفي السياسات الخارجية فأمريكا في زمن ترامب لا تريد الإنغماس في قضايا الشرق الأوسط والمشاكل الأقليمية، ولا تأبه بحقوق الشعوب، ولا تسأل عن القيم الإنسانية، وليست معنية بإضعاف الأنظمة الدكتاتورية، ولا بنشر الديموقراطية، فالإنكفاء إلى الداخل هو جوهر سياستها، وإعادة الوظائف وتقليل البطالة من أهم أهدافها، وتوظيف الآخرين للقيام بأعمالها الخارجية كما تفعل روسيا في سورية من أهم أسس سياساتها الخارجية، وابتزاز دول الخليج بحجة حمايتها عنصر أساسي في علاقاتها الدولية، ومطالبة حلفائها في حلف الناتو بتقديم المزيد من الأموال والإلتزامات هو قوام استمرار تحالفاتها، فهي لا تُريد القيام بشرطي العالم بإمكانياتها وثرواتها، وإنّما تُريد القيام بإدارة العالم من خلال إمكانيات ومُقدرات الآخرين.

وهذه القواعد الدولية الجديدة التي تُريد إدارة ترامب إدخالها لا شكّ أنّها سوف تتصادم مع السياسات ( الشعبوية ) التي بدأت تنتشر لدى الدول الأخرى سواء الدول الغربية أم غيرها، وهو سيؤدي بالضرورة إلى نشؤ صراعات دولية جديدة، بسبب تضارب المصالح الاقتصادية بين التكتلات والقوى الكبرى، وبسبب بروز ظاهرة التعصب القومي لدى الدول والتي تُنتج بالتبع أنظمة قومية غاضبة ومتنافسة، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى تقويض نظريات حرية التجارة والليبرالية والعولمة، والعودة إلى سياسات العزلة والانكفائية والحمائية، وهذا كُلّه سيؤسّس لنشوب حروب دامية، وانهيار دول ومعسكرات وأحلاف ونشؤ أخرى.

ولن ينتهي هذا الإختلال الدولي إلا بوجود قوة عالمية جديدة تقوم على أسس مُغايرة لا تمت إلى الرأسمالية بصلة، ولا تعود القهقرى إلى السياسات الاشتراكية الفاشلة، والأرجح أنْ تنبع هذه القوة الجديدة من المناطق المقهورة التي تصطلي شعوبها بنيران هذه النظريات الوضعية الفاسدة التي ثبُت إفلاسها، هذه الشعوب التي ما زالت حتى الآن تقبع تحت نير تسلط واستعمار القوى الغربية منذ زمن طويل، وأهمّها الشعوب العربية والإسلامية التي تملك سر خلاص عذابات البشرية، والذي يتمثّل بقوة الإسلام الدولية التي بدأت تتململ وتتحرّك لتجد لها في النهاية المكان الذي يُناسب مُستواها ووزنها، فتملأ الفراغ الناشئ عن تصادم تلك المصالح والمنافع، وتُمهّد لإرساء سياسات جديدة مبْنية على الرحمة والعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه.




4 / 12 / 2016

ليست هناك تعليقات: