ذكرى هدم الخلافة:
السرد والعِبَر
في الثامن والعشرين من رجب الفرد من العام 1342 للهجرة المُوافق للثالث من آذار/مارس من العام 1924 للميلاد صدر مرسوم مشؤوم عما يُسمّى بالجمعية الوطنية الكبرى ينص على إلغاء الخلافة رسمياً، وخلع عبد المجيد الثاني آخر خليفة للمسلمين، وخلع مصطفى صبري آخر شيخ للإسلام، وطردهما، وطرد جميع أفراد الأسرة الحاكمة من آل عثمان من البلاد، ومُصادرة أموالهم. وجاء هذا المرسوم بعد مراسيم كثيرة صدرت قبله قضت بإلغاء جميع القوانين والشعائر الإسلامية، واستبدلت المحاكم المدنية بالمحاكم الشرعية، ونصّت على تشريع قوانين وضعية جديدة مُستمدة من القوانين اللاتينية والجرمانية الأوروبية، حلّت محل الأحكام الشرعية.
وساهمت كيانات وقوى وشخصيات محلية تعاونت مع الإنجليز في زعزعة الخلافة، وإضعافها، قبل هدمها بعشرات السنين، وأوّلها كيان آل سعود الذي تأسّس بالاستناد إلى غطاء شرعي من محمد بن عبد الوهاب مؤسّس ما يُسمّى بالوهابية، ودام ما بين 1747-1787م، فكان أوّل معول هدم في جسم الخلافة العثمانية، فقام كيان انفصالي بالقوة العسكرية واستولى على مناطق من نجد، وهاجمت القوات الوهابية الكويت واحتلتها، وهاجمت مدينة رسول الله ﷺ، وخرّبوا قباب المسجد النبوي، وعاثوا فيه خراباً، وهاجموا بغداد ودمشق وحلب وخلخلوا الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق والشام.
اضطرت الدولة العثمانية إلى الاستعانة بوالي مصر محمد علي - وكان عميلا لفرنسا - من أجل إيقاف تعديات الكيان الوهابي، فأرسل جيشاً بقيادة ابنه إبراهيم باشا وقضى على كيانهم، ومسح مقرهم في الدرعية بشكلٍ كامل، لكنّه بعد ذلك قام بالهجوم على الشام وانتزعها من أيدي الدولة العثمانية، وهاجم الأناضول، وكاد أن يصل إلى العاصمة إسطنبول لولا منعه من قبل الإنجليز، وأدّى ذلك إلى اضعاف الدولة كثيراً، وأدّت هذه الحركات الانفصالية إلى إضعاف الدولة العثمانية، كما أدّت إلى ظهور التكتلات القومية التي تمّ تشجيعها ودعمها من قبل الدول الأوروبية، وانتشرت الأحزاب القومية في كل ولايات الدولة، وصارت تطالب بالاستقلال والانفصال عن جسم الدولة.
وفي العام 1909 نجح حزب الاتحاد والترقي التركي النزعة في السيطرة على الحكم وإسقاط السلطان عبد الحميد، ووضع دستوراً وضعياً ونظاماً برلمانياً، وأنهى عملياً تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، لكنّه أبقى على منصب شكلي للخلافة، وأصبح محمد رشاد الخليفة الذي جاء بعد عبد الحميد خليفةً شكلياً بلا أي صلاحيات. وأصبح الحاكم الفعلي للدولة ثلاثة رجال وهم: رئيس الحكومة طلعت باشا ووزير الحربية أنور باشا وحاكم ولاية الشام جمال باشا.
وفي العام 1914 أقحمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا، فتحالف طلعت وأنور معها، بينما عمل جمال مع الإنجليز وتآمر عليهما. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى وبالذات في العام 1915 برزت من الجيش شخصية هدّامة جديدة وهو مصطفى كمال الذي كان ضابطاً مغموراً، وفي موقعة اسمها أنا فورطة أعلن عن انتصاره في المعركة على الجيش الإنجليزي، وكانت مسرحية واضحة حيث انسحبت القوات الإنجليزية من الموقع المذكور الذي سيطر عليه مصطفى كمال بتنسيق مع الإنجليز، وانطلت المسرحية على الناس، وارتفعت شعبيته عنان السماء، وتمّت ترقيته ليصبح ضابطاً مشهوراً.
وبدأ مصطفى كمال بعد ذلك بالكشف عن حقيقة ولائه للإنجليز على الملأ، فأصبح يبث الآراء المهادنة للإنجليز والداعية إلى التصالح معهم بحجة عدم القدرة على مُواجهتهم، وفي الوقت نفسه بدأ يؤلب الخليفة وحيد الدين ضد ألمانيا، وضد رجالها بمن فيهم طلعت وأنور، لكنّ وحيد الدين حاول ثنيه عن ذلك بطرق عدة، وبعد سقوط القدس بيد الإنجليز عام 1917، أرسله ليدافع عن الشام، ويمنع سقوطها بالعمل مع القائد الألماني العام ليمان ساندروز. فلمّا وصل إلى فلسطين مكث في نابلس، وتمارض، ولم يقاتل، وانهزم الجيش العثماني في معركة مجدو، فتخلّى مصطفى كمال عن فلسطين وانسحب إلى دمشق، فطلب منه ساندروز بناء خطوط دفاعية جديدة، لكنّه رفض وانسحب إلى حلب، ثمّ دخل الأناضول وعسكر فيها، فجنّ جنون ساندروز وقال له أنا لا أتحمّل مسؤولية الانسحاب من قطعة أرض كبيرة من سوريا، فأجابه مصطفى كمال بكل وقاحة: "أنا أتحمل المسؤولية الكاملة".
وفي تلك الفترة كان الخائن الأكبر الحسين بن علي قائد ما يُسمّى بالثورة العربية يُحارب مع الإنجليز ضدّ الجيش العثماني في الأردن، ويقطع خطوط اتصالاته وإمداداته بقيادة ضابط الاتصالات الإنجليزي المشهور بلورنس العرب الذي كان مستشاراً لفيصل بن الحسين، وتمكنوا بذلك من احتلال العقبة وكل الأراضي الأردنية، ثمّ دخلوا دمشق سويةً عام 1918 مع الإنجليز، واحتلت بريطانيا والحلفاء الفرنسيون والإيطاليون واليونانيون الأناضول والعاصمة إسطنبول، وفرضوا على الخليفة الوصاية، وأجبروه على توقيع اتفاقية سيفر التي تقضي بالتنازل عن معظم الأراضي العثمانية للحلفاء.
وهُزمت ألمانيا وهُزمت معها الدولة العثمانية بفضل أمثال هؤلاء الخونة كمصطفى كمال والحسين بن علي، وانتهت الحرب العالمية الأولى، وتمّ تقسيم الولايات العثمانية وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو ومن ثمّ سان ريمو سنة 1920.
وبدأ مصطفى كمال بتنسيق كل خطواته مع الإنجليز؛ فقاد ثورة من الأناضول ضد الاحتلال، واتخذ من أنقرة مقراً له، ودخل في معارك مصطنعة وهمية مع الحلفاء، فكانت قواتهم تنسحب من المدن والمناطق، وقواته تحرّرها واحدةً تلو أخرى في حرب استقلال مُزيّفة، ثمّ شكّل حكومةً وبرلماناً في أنقرة تُنافس حكومة الخليفة في إسطنبول، وأصبح يُهاجم حكومة إسطنبول ويصفها بالعاجزة، مُحاولاً سحب البساط من تحت أقدامها، وأدرك وحيد الدين لعبته، فأمر الجيش بمهاجمته خاصة عندما هاجم مقام الخلافة، وكاد أن ينهزم جيشه أمام جيش الخليفة لولا إعلان بريطانيا عن اتفاقية سيفر التي وقّعها وحيد الدين، فصُدم الجيش والناس من حجم التنازلات التي تضمّنتها الاتفاقية، وتراجع الجيش، وانحاز كثير منهم لقوات مصطفى كمال. ثمّ اعترفت بريطانيا بكلا الحكومتين إسطنبول وأنقرة، وبرز مصطفى كمال وكأنّه هو مُحرّر الأناضول بينما وحيد الدين بدا وكأنّه خاضع تماماً للإنجليز عاجز عن القيام بأي شيء.
ثمّ أجبر وحيد الدين بعد ذلك بالقبول بزعامة مصطفى كمال، وتخلّى عن قيادة المُفاوضات في لوزان لصالح مصطفى كمال ورجاله، وجرت المُفاوضات في لوزان على قاعدة إلغاء الخلافة وطرد الخليفة ومُصادرة أمواله وإعلان علمانية الدولة، وهذا ما تمّ بالفعل، فعُزل وحيد الدين سنة 1923م ونُفي بسفينة بريطانية إلى جزيرة قبرص، وعيّن بدلاً منه عبد المجيد الثاني خليفة شكليا ومؤقتا ريثما يتم إنهاء الخلافة دستورياً.
وفي مجلس العموم البريطاني ردّ اللورد كرزون وزير الخارجية على سؤال أحد النواب عن سبب سحب القوات البريطانية من إسطنبول بسهولة فأجاب: "لقد قضي على تركيا ولن تقوم لها قائمة لأنّنا قضينا على القوة المعنوية فيها الخلافة والإسلام".
وبهدم الخلافة زالت الأحكام الشرعية، وتعطّلت البيعة، ومُزّقت بلاد المُسلمين على أسس قومية ووطنية في كيانات كرتونية هشّة تابعة وهزيلة، وعُيّن حكام عملاء مأجورون يحكمونها، وأصيبت فكرة الوحدة في مقتل، وسقط بسقوطها بيت المقدس والأرض المُباركة، وزُرع كيان يهود السرطاني في قلب بلاد المسلمين، وتخلّفت الكيانات الجديدة الناشئة في كل مجالات الحياة اقتصادياً وصناعياً وعلمياً وعسكرياً وإدارياً، وهُزمت هذه الدول البائسة في كل معاركها فلم تنتصر في معركةٍ قط، ولم يعد لجميع هذه الدول وزن في المشهد الدولي، فكيان يهود الدخيل على سبيل المثال ذو السبعة ملايين نسمة يؤثّر في المُجتمع الدولي أكثر من تأثير 57 كياناً للمسلمين الذين يصل تعدادهم قرابة الملياري إنسان!.