حلف الناتو وسبعون عاماً من الظلم والبغي والعدوان
انعقدت قمة دول حلف الناتو في العاصمة البريطانية لندن في 04/12/2019م بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيس حلف شمال الأطلسي المعروف اختصاراً بحلف الناتو، وأُنشئ الحلف في العام 1949م من دول شمال المحيط الأطلسي وهي أمريكا وكندا ومُعظم دول أوروبا الغربية الرأسمالية بالإضافة إلى تركيا لمواجهة خطر تعاظم قوة روسيا التي تحولت آنذاك إلى الاتحاد السوفيتي، والذي صار يتوسع في شرق أوروبا بسرعةٍ قياسية، ويُطبّق فيها الشيوعية، ثمّ ما لبث الاتحاد السوفيتي أنْ أنشأ حلفاً للدول الشيوعية التابعة له، وجعل من العاصمة البولندية وارسو مقراً له في العام 1955م، وضمّ إليه دول شرق أوروبا التي فُرضت عليها الشيوعية بالقوة، وأصبح العالم بعد الحرب العالمية الثانية مُنقسماً بين مُعسكرين، أحدهما رأسمالي يُمثّله حلف الناتو بقيادة أمريكا، والآخر شيوعي يُمثّله حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي.
وفي العام 1991م اندثر الاتحاد السوفيتي، وتحولت روسيا عن الشيوعية إلى الرأسمالية، وانفرط عقد حلف وارسو ولم يعد له وجود، وزال خطر الشيوعية، وانتفى وجود أي تهديد عسكري ضد دول حلف الناتو، ولم يعُد هناك أي مُبرّر لاستمرار وجود الحلف، وكان المفروض حلّ الحلف، وإنهاء حالة المعسكرات الدولية.
لكنّ أمريكا والدول الغربية بدلاً من إلغاء الحلف استحدثت عدوّاً جديداً لها وهو الإسلام، واتخذته مُبرّراً لبقاء الحلف، وظهر ذلك في تصريح للأمين العام للحلف ويلي كلايس بُعيد سقوط حلف وارسو، والذي اعتبر فيه أنّ الإسلام حلّ محل الشيوعية في مُعاداة الغرب، وقال بأنّ الأصولية الإسلامية باتت أعظم خطر يُواجه الغرب، وتحدّث كذلك قادة غربيون عديدون بهذا المعنى ومنهم هنري كيسنجر.
وهكذا تحوّل عداء الغرب إلى الإسلام تحولاً تلقائياً بعد سقوط الشيوعية، وهو وإن كان موجوداً قبل ذلك، لكنّه أخذ صورة التحالف العسكري والمواثيق الدولية، وما تدخلات الحلف في البوسنة والهرسك وكوسوفا والعراق وأفغانستان وليبيا إلا تأكيد على دوره الاستعماري المعادي للمسلمين.
فأصبح الحلف بعد العام 1991م صليبياً مُعادياً للإسلام بشكلٍ واضح ومُباشر، وتوسّع الحلف بعد ذلك على هذا الأساس، فانضمت إليه دول أوروبا الشرقية التي كانت تابعةً للاتحاد السوفيتي البائد كرومانيا وبلغاريا وبولندا والتشيك والمجر وغيرها من دول أوروبا الشرقية، وبلغ عدد الدول المنضوية فيه اليوم تسعاً وعشرين دولة وما زال قابلاً للزيادة.
ولا يوجد بين أقطاب الحلف ومؤسّسيه اختلاف على مُحاربة الإسلام، ولكن يوجد بينهم اختلاف على طريقة قيادة الحلف وحجم الإنفاق فيه، فأمريكا تُريد من الدول الأوروبية زيادة نسبة مُساهماتها المالية في الحلف، بينما تسعى فرنسا لتتبوأ مكانة قيادية عليا إلى جانب أمريكا وبريطانيا فيه، وتُهدّد بالخروج منه وتشكيل نُواة جيش أوروبي ليكون بمثابة البديل عن الحلف، وهي قد انسحبت منه بالفعل في العام 1969م أيام ديغول ثمّ عادت إليه فيما بعد.
وقُبيل انعقاد قمّة الحلف الأخيرة في لندن جرت مُشاحنات ومُناكفات بين الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الأمريكي ترامب، فقال ماكرون مُعرّضاً بالدور الأمريكي في قيادة الحلف: "إنّ دول الحلف لم تعد تتعاون في القضايا السياسية، والحلف اليوم يمرّ في حالة موت سريري أو دماغي، وإنّ أمريكا تتعامل بفتور تجاه التزاماتها في الحلف"، فردّ عليه ترامب بعنف قائلاً: "إنّ الحلف يؤدي مُهمّة عظيمة، وإنّ أمريكا في أوروبا لحمايتها منذ الحروب العالمية الأولى والثانية، ولا تريد شيئاً منها سوى دفع الأموال التي عليها، وإنّ تصريحات ماكرون مُقرفة، وفيها إهانة كبيرة للحلف، وإنّ فرنسا هي أكبر المُستفيدين من الحلف، ولن تنجح الدول الأوروبية في إنشاء جيش أوروبي بديل عن الناتو".
ثمّ انبرى الرئيس التركي أردوغان مُدافعاً عن الحلف ومُهاجماً ماكرون فقال: "يبدو أنّ ماكرون هو الميّت دماغياً وليس الحلف"، والغريب أنّ أردوغان في رده هذا على ماكرون يتناسى كونه رئيس بلد مسلم مُستهدف هو نفسه من الحلف الذي هو رئيس لدولة عضو فيه، فأمريكا والدول الغربية تستغل قوة تركيا وأراضيها ذات الموقع الاستراتيجي المهم لدعم أهداف الحلف المعادية للإسلام، فالطائرات الأمريكية تشن الكثير من غاراتها ضد أبناء المسلمين من قواعد لها على الأراضي التركية، فلو كان أردوغان يملك قرار بلاده لانسحب من هذا الحلف المعادي للإسلام والمسلمين فوراً ومن دون تأخير، وكم من المجازر التي ارتكبها الحلف في العراق وأفغانستان وفي غيرها من بلاد المسلمين بدم بارد، ولا ننسى جريمة الصرب البربرية التي قلّ نظيرها في التاريخ عندما قتلوا في سربرنيتشيا 8000 مُسلم في عدة أيام برعاية قوات الحلف الهولندية.
إنّ وجود حلف الناتو اليوم هو بحد ذاته جريمة بحق البشرية، وليس بحق المسلمين وحسب، فهو تكتل عسكري مُتغطرس لدول استعمارية قوية لا تحتاج إلى حلف، وهو يقوم على أساس من الظلم والاستقواء على الشعوب الضعيفة، ويُمارس البغي والعدوان والحفاظ على الاستعمار بصورٍ جديدة، لذلك كان لزاماً على دولة الإسلام المقبلة أنْ تعمل فوراً على تفكيك الحلف، ومنع قيام أحلاف عسكرية ابتداء، لأنّ قيامها يعني استمرار عسكرة العالم، ويعني فرض قانون غاب عالمي دائم يُسيطر فيه الأقوياء على المستضعفين.
إنّ نشر الهداية بين الناس لا يكون إلا بقيام دولة العدل التي تُعامل جميع الشعوب بالقوانين والأنظمة العادلة نفسها التي تتعامل هي بها، وهذه الدولة جُرّبت لمدة زادت عن الألف عام، ولم يشْكُ أحد من رعاياها أزمة هوية، ولا شعر أحد داخلها بالظلم والتحيّز. إنّ هذه الدولة هي أمل العالم، إنّها دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي تحمل العدل إلى البشرية جمعاء.