الفهم السياسي قواعد ومنطلقات
تفتقر الأمّة اليوم إلى وجود السياسيين المُبدعين الذين يملكون القدرة على القيادة والرعاية، كما تفتقر لوجود السياسة بمعناها الرعوي الحقيقي، وسبب هذا الافتقار يعود إلى انعدام الفهم السياسي المبني على أسس وقواعد متينة يفتقدها غالبية الناس، وسبب هذا الانعدام يعود إلى غياب تطبيق أحكام الشرع الإسلامي، لا سيما أحكام نظام الحكم، وأسباب ذلك كله مَردّها فقدان الأمّة الإسلامية لدولة الإسلام، دولة الخلافة، بوصفها الكيان التنفيذي للأنظمة والقوانين الإسلامية، فهي التي بوجودها يوجد حشد من رجال الدولة ومن السياسيين الحقيقيين.
إنّ السياسة ليست كما يزعم الكثير من الجهلة، أو كما يُروّج لها المُرتزقة من السياسيين الوصوليين بأنّها فن الكذب والخداع والتضليل، بل هي في جوهرها مُباشرة رعاية شؤون الناس وتدبير مصالحهم، وهذا هو واقعها الدائم الذي لا يتبدّل ولا يتغير في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، فالسياسة بوصفها رعاية شؤون ثابتة لا تتغيّر، أمّا الذي يتغيّر فهو القاعدة التي تعتمد عليها تلك الرعاية، والتي قد تكون فكراً جزئياً، أو مبدأ باعتباره عقيدة ينبثق عنها نظام، أو مصلحة ضيقة.
والسياسي كما يكون حاكماً يرعى الشؤون بشكلٍ فعلي، ويُنفّذ القانون على الناس، فقد يكون ليس حاكما يقوم بمحاسبة الحكام، ويؤثّر في المجتمع، ويُساهم في إيجاد الرأي العام، وفي عملية التغيير الجماعي.
هذا بالنسبة للسياسة وللسياسي، أمّا الفهم السياسي فهو شيء آخر، وهو يتعلّق ببناء العقلية السياسية على أسس وقواعد مُعينة، فإذا كان البناء متيناً كان السياسيون قادة حقيقيين في المجتمع، وكانت السياسة رعاية شؤون الناس رعايةً حقيقية ترتقي بهم من حال إلى حالٍ أفضل منه، والعكس صحيح.
والفهم السياسي المُنتج هو الذي يعتمد أولاً على قاعدة فكرية صلبة، والتي تُعتبر في الوقت نفسه قاعدة سياسية تُبتنى عليها جميع المفاهيم السياسية، وهذه القاعدة في الإسلام هي عقيدة لا إله إلا الله حصراً وقصراً، فهي أساس البناء، وهي الزاوية الخاصة الوحيدة التي تصلح لأنْ يُنظر من خلالها إلى العالم، ومن دونها ينحطّ الفهم السياسي عند المسلمين كما هو حالهم اليوم، وذلك لأنّهم استبدلوا بها زوايا خاصة أخرى بعيدةً عن العقيدة، تعتمد على الروابط القومية الضيّقة، والوطنية الضحلة، والمصلحية النفعية الفردية.
ولكنّ قاعدة العقيدة لا تكفي وحدها لإيجاد الفهم السياسي وبنائه، ولا لإعداد رجال الدولة القادة، ولا لتوفير السياسيين المؤثّرين، بل لا بُدّ من توفر مجموعة أخرى إلى جانب قاعدة العقيدة، وهي عبارة عن مجموعة من العناصر اللازمة لعملية بناء الفهم السياسي الصحيح وأهمها:
1- المعلومات العامة: وهي المتعلقة بالدول وطبيعة الشعوب وثقافاتها وأديانها ونظامها السياسي وعناصر قوتها المختلفة وثرواتها وموقعها الجغرافي وتاريخها وتطلعاتها، وما شاكل ذلك من معلومات.
2- التتبع: والمقصود به مُتابعة الأخبار اليومية والأحداث والمُجريات والمُستجدات وتصريحات المسؤولين أولاً بأول وبشتى الأساليب، وذلك من خلال قراءة وتصحف المجلات والصحف الورقية أو المواقع الإلكترونية، أو الاستماع إلى نشرات الأخبار والتعليقات والتحليلات السياسية، والاستمرار في ذلك طوال الوقت، وعدم الانقطاع عن هذا العمل ولو يوماً واحداً، وهذا التتبع هو الذي يُعتبر بمثابة الخبز اليومي للسياسيين، ويحتاج إلى مُثابرة ونشاط بلا كلل ولا ملل، وهو من الأعمال السياسية المُهمّة جداً، بل هو مفتاح كل العملية السياسية بِرُمّتِها، وفيه الكثير من المُعاناة والمشقة، ويحتاج إلى الكثير من الصبر والجلد، ومن دون وجود عنصر التتبع هذا فلا يُعتبر الشخص سياسياً مُطلقاً.
3- استبعاد الرأي السابق: وهو الرأي الجاهز المُتعلّق بالحدث الذي قد يتسلط على المُحلّل، وقد يدفعه هوى النفس لقبوله، والخضوع له.
4- عدم الالتفات إلى آراء الآخرين المُغايِرة، وعدم التأثر بها ولو كانت تحظى باحترام الغالبية، لأنّ هذه المسألة ليست مسألة أكثرية وأقلية، وإنّما هي مسألة مُطابقة للواقع أو عدم مُطابقة.
5- استحضار جميع القواعد السابقة الثابتة المُتبنّاة، واستخدامها في التحليل.
6- الربط: بأنْ يتم انتقاء المعلومات المتصلة بالحدث أو التصريح وربطه بقاعدة، أو بأكثر من قواعد الربط السابقة المُعتمدة، ثمّ الخروج بالحكم، وتكوين مفاهيم سياسية جديدة، ويُراعى في عملية الربط ثلاثة شروط وهي:
أ- عدم تجريد الحدث عمّا يتعلق به ويتصل به من مُلابسات ومواقف أو معلومات سابقة أو حاضرة.
ب- عدم استخدام القياس الشمولي في الاستنباط لمجرد وجود الشبه.
ج- رصد جميع ردود الفعل على الحدث وتحليلها، وأخذها في الحسبان حين الربط.
وأخيراً لا بُدّ من التركيز على أمرين اثنين فيما يتعلق بالفهم السياسي المبني على هذه الطريقة وهما:
1- أنّ الآراء التي يتم التوصل إليها من خلال هذه القواعد هي آراء ظنية فيها قابلية الصواب والخطأ، وإنْ كان بُذل للوصول إليها مجهودات عظيمة، واستُنبطت بأفضل الطرق، وبأصعب وأصح أنْماط التفكير.
2- لا بُدّ من التذكير بأنّ التحليل أو الفهم السياسي لا يُراد به المُتعة العقلية، ولا الترف الفكري، بل يُراد به خوض غِمار الكفاح السياسي، والتأثير في المُجتمع، والتحضير لعملية التغيير الشاملة، وإسقاط الأنظمة العميلة والتابعة، والدائرة في فلك الدول الكبرى، وإقامة صرح الإسلام الشامخ وهو دولة الخلافة الثانية على منهاج النبوة.
إنّ إيجاد الفهم السياسي بهذه الطريقة كفيل بأنْ يوجد رجال دولة يُعتدّ بهم، وبأنْ يُنشئ جيلاً جديداً في الأمّة، يقودها إلى اقتعاد المكانة العظيمة التي تليق بخير أمّةٍ أخرجت للناس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق