دخلت العلاقات بين الدول الغربية الأطلسية مرحلةً جديدةً من الصراع الأوروبي الأمريكي، لا سيما بعد أن حذّرت وزارة الخزانة الأمريكية الشركات الأوروبية من طائلة شمولها بالعقوبات في حال استمرار علاقاتها التجارية مع إيران، وأمهلتها مدة شهرين لإنهاء جميع استثماراتها في إيران، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الأوروبيين، وجعلهم يستشيطون غضباً، ويردون بتصريحات عدائية حادة تجاه أمريكا، فقد صرّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنّ إعلان ترامب إنهاء الاتفاق النووي مع إيران من جانبٍ واحد هزّ الثقة في التعاون بين أطراف المجتمع الدولي، وقالت بأنّه ليس من الصحيح أن ينهي طرف ما وبصورة أحادية اتفاقاً أبرم وتمّ التصويت عليه من قبل مجلس الأمن بالإجماع، وهو ما من شأنه أن يُزعزع الثقة في النظام الدولي.
وأما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فقال: "لم يعد بإمكاننا القبول بأن يقرّر آخرون نيابةً عنّا"، بينما قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بأنّ عقوبات واشنطن على الشركات الأجنبية العاملة في إيران غير مقبولة، وإنّ هذه العقوبات الأمريكية تبقى شأناً خاصّاً بالأمريكيين، والأوروبيون ليسوا مضطرين لدفع ثمن انسحاب أمريكا من الاتفاق، وأنّ على الأوروبيين صياغة الإجراءات الضرورية كحماية مصالح شركاتهم، فيما قال وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير: "إنّ على أوروبا أن تُمارس سيادتها الاقتصادية لا أن تظل تابعة للولايات المتحدة، وإنّ الوقت قد حان لأن تنتقل أوروبا من الأقوال إلى الأفعال"، ورفض لومير ما وصفه باحتكار أمريكا دور شرطي الاقتصاد العالمي.
وواضحٌ من هذه التصريحات أنّ أوروبا غاضبة من العقوبات الأمريكية المُوجّهة ضد الأوروبيين أكثر ممّا هي موجهة ضد إيران نفسها، فإيران لديها بدائل اقتصادية كثيرة تكمن بالتعامل مع دول كالصين والهند وتركيا وروسيا وغيرها ممن لا تؤثّر بهم عقوبات أمريكا، وهي مُعتادة أصلاً على العقوبات الأمريكية منذ عقود، بينما الأوروبيون الذين خُدعوا بالاتفاق النووي هم الخاسرون الحقيقيون من عقوبات إدارة ترامب، فهم قد ضخّوا حوالي ثمانمائة مليار دولار في إيران في السنتين الأخيرتين فقط، فاستثمرت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا المليارات في حقول الغاز والنفط والآلات والأدوية والتوربينات والمولدات والطائرات والمركبات والمنتجات الغذائية، والكثير من السلع الأخرى المُختلفة، وكل هذه الاستثمارات الضخمة أصبحت الآن تحت رحمة أمريكا.
إنّ اجتماعات بروكسل بين وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا مع فيدريكا موغريني رئيسة الدبلوماسية الأوروبية ومع جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني ما هي سوى مُحاولة أوروبية مُتواضعة لتوحيد المواقف، ووضع خطة دفاعية أمام الهجمة الأمريكية الاقتصادية على أوروبا، لكنّ أوروبا لا تملك إلاّ التفاوض مع أمريكا لتقليل خسائرها، ولا تملك آلية اقتصادية أخرى تُجبر أمريكا على الاستجابة لموقفها، لأنّ آليات المؤسّسات المالية الدولية، والدولار الأمريكي، ومراكز الثقل الاقتصادي التي تؤثّر على الاستثمارات الأوروبية كلها تخضع للرقابة والهيمنة الأمريكية.
تُحاول أوروبا بقدر المُستطاع الانعتاق من تلك الهيمنة الأمريكية بأساليب فشلت من قبل، كتشكيل قوة عسكرية أوروبية مُوحدة تمنح غطاءً ذاتياً لاتخاذ القرار الاقتصادي السيادي المُستقل بعيداً عن المُشاركة مع الأمريكيين، فقد قالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس باركي قبل أيام: "إنّ نحو عشر دول بينها ألمانيا وبريطانيا إلى جانب فرنسا مُستعدة للمُضي في إنشاء قوة تدخل أوروبية قادرة على القيام بعمليات عسكرية خارج إطار الحلف الأطلسي وبعيداً عن هيمنة الأمريكيين".
ولكنّ مثل هذه الأفكار ليس من السهولة تطبيقها في ظل تشرذم الأوروبيين، وتغلغل النفوذ الأمريكي في الكثير من دولهم، وصفعة ترامب هذه لهم ليست هي الأولى، فقد سبقها صفعات كثيرة كخروج أمريكا من اتفاقية باريس للمناخ، وكفرض رسوم على واردات الصلب والألمنيوم الأوروبية وإن كانت مُجمدة مؤقتا، وكتحميل ألمانيا المسؤولية عن العجز التجاري لأمريكا، ومُطالبة ألمانيا وأوروبا بزيادة مُساهماتها في نفقات حلف الأطلسي، وكالتخلي عن التعددية الدولية وعدم إشراك الدول الأوروبية معها في القرارات الدولية، ومحاولة فرض أمريكا إملاءاتها على شركائها الأوروبيين وابتزازهم، لدرجة أنّ كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية قال مُعبّراً عن حال الأوروبيين: "إنّ واشنطن لم تعد تريد التعاون مع بقية العالم، ووصلنا إلى مرحلة باتت تفرض علينا البحث عن بديل للولايات المتحدة".
وفي ظل هذا الصراع الأوروبي الأمريكي المُحتدم تبقى أشباه الدول القائمة في البلاد الإسلامية تابعةً خانعةً ذليلة، لا مكان لها في عالم تتحرّك فيه الكيانات السياسية الفاعلة للدفاع بحرارة عن مصالح دولها وشعوبها، فلا تملك هذه الدول دفعاً ولا تأثيراً، تربط مصيرها بغيرها، وتعرض نفسها كخادمة مُطيعة لتمرير المخططات التآمرية على شعوبها، لا فرق في ذلك بين الطغم الحاكمة في إيران أو السعودية على سبيل المثال لا الحصر، ولا بين أية طغمة حاكمة في أي قطر إسلامي وبين أي طغمة أخرى في قطرٍ آخر.
ولكي تنتقل بلادنا من حالة المفعولية السياسية إلى حالة الفاعلية السياسية، ولإنهاء وضعية كوننا مُجرد مادة للصراع عليها بين القوى الدولية العظمى، لا بد لشعوب الأمّة الإسلامية من الاستمرار في الثورة على الأنظمة الحاكمة العميلة المفروضة عليها، مع القيام بتصحيح مسارها، والاستفادة من أخطائها، وبلورة مشروعها، ومن ثمّ إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة على أنقاض تلك العروش الزائفة، وحمل دعوة الإسلام إلى البشرية بقوة الدولة وجهادها، لتتبوأ مكانتها اللائقة بين الدول، فتعيد للأمة كرامتها، وتستعيد زمام قيادتها، وتكنس نفوذ أعدائها من كل بلاد المسلمين، وتُلاحقهم في عقر دارهم فلا تبقي لهم دارا، وتفرض أوضاعاً دوليةً جديدة لا مكان فيها للمستعمرين والطامعين والمستكبرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق