تعثر المفاوضات السورية في جنيف لا يعني توقفها
إنّ انهيار الهدنة التي أُبْرمت في نهاية شهر شباط (فبراير) الماضي بين نظام الطاغية بشّار وبين المعارضة السورية المقبولة أمريكياً ودولياً، وانسحاب وفد المعارضة من جنيف، وارتفاع وتيرة الأعمال المسلّحة بين الطرفين، وتجدّد قصف النظام العشوائي بالبراميل المتفجرة للأسواق والمستشفيات والميادين العامة، وقتل المدنيين بالجملة، ورفع سقف شروط التفاوض خاصة من قبل النظام، كل ذلك لا يعني انتهاء المفاوضات بين الطرفين، ولا يعني فشل مؤتمر جنيف، وإنّما يعني تعليق جولات التفاوض إلى حين ريثما يتحسّن موقف الطرف الأضعف على الأرض، ليعود بعد ذلك إلى طاولة المفاوضات بوضعية أقوى، فعملية المفاوضات بحد ذاتها لم تتوقف، ولم يتم الإعلان عن الانسحاب منها من قبل أي طرف من أطرافها، وإنّما تمّ الحديث عن تعثّرها فقط، وألقى كل طرف اللوم على الطرف الآخر في ذلك التعثّر، فالحقيقة أنّ الأطراف المتفاوضة لا تملك خيار نقض عملية المفاوضات برمّتها، وبالتالي فلا مجال لديها للتراجع عنها طالما أنّ أمريكا وروسيا تُريدانها. فعملية التفاوض قد انطلقت برعاية أمريكية روسية، وتحت مظلة دولية، وبرئاسة دي ميستورا المبعوث الأممي الذي فرضته أمريكا وصيّاً عليها، ووافقت عليه جميع الدول الكبرى والإقليمية، وقبل به المتفاوضون أنفسهم، لذلك كانت عملية المفاوضات السورية بمركّباتها الرئيسية تلك أكبر من أن يوقف مسيرتها أضعف عناصرها. وقد أعلن دي ميستورا صراحةً بأنّ المفاوضات سوف تستمر بالرغم من انسحاب المعارضة، وقال: "إنّ الهدنة السورية تُواجه خطراً كبيراً وذلك مع تصاعد وتيرة القتال في مناطق متفرقة من سوريا"، ودعا إلى عقد قمّة إقليمية تجمع روسيا وأمريكا والدول الإقليمية ذات الصلة لمنع انهيار محادثات السلام في جنيف. وصدر بيان عن البيت الأبيض الأمريكي جاء فيه: "إنّ الرئيس باراك أوباما اتصل بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتشاركا القلق حيال وقف الأعمال العدائية في سوريا، وشدّدا على الحاجة إلى وقف الهجمات من جميع الأطراف، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق المحاصرة". فالهدنة بالنسبة لدي ميستورا - وبالرغم من كونها تُواجه خطراً - لا تُوجب توقف المفاوضات، وممكن حلّ المشكلة - من وجهة نظره - باجتماع جديد على المستوى الوزاري للمجموعة الدولية الداعمة لسوريا، والتي تضم أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي وتركيا وبعض الدول العربية، وأمّا الهدنة بالنسبة لأوباما وبوتين فهي مسألة تُثير القلق، وتتطلّب منهما العمل على وقف الأعمال العدائية، وعلى ضمان إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة ليس أكثر. ويُدرك دي ميستورا تمام الإدراك أنّ المعارضة السورية شأنها شأن النظام تقوم بأعمال استعراضية لتحسين مواقفها التفاوضية، وقد أفصح عن ذلك باعتباره أنّ (حرَد) المتفاوضين هو نوع من أنواع التناور فقال: "يوجد أيضاً الكثير من الاستعراض الدبلوماسي، وهذا أمر طبيعي، بمعنى اقتراح أشياء من الصعب قبولها، والمغادرة ثمّ العودة، ثمّ المغادرة ثمّ العودة"، فهو يكشف بكلامه الخطير هذا واقع تلاعب المتفاوضين، وكذبهم، وأنّهم عندما يزعمون المغادرة، فإنّهم سيعودون ثانية للتفاوض، ويؤكد ذلك بقوله: "لا يُمكن أن نسمح للمفاوضات بالانهيار، يجب أن نُراجع وقف إطلاق النار، يجب أنْ نُسرّع المساعدات الإنسانية، وسوف نطلب من الدول الراعية الاجتماع"، فالأمر بيده وبيد القوى الكبرى وليس بيدهم. إنّ انسحاب وفد المعارضة من المفاوضات جاء بعد الإحراج الشديد الذي أصاب قادة الوفد، وشكّك بمصداقيتهم أمام قواعدهم التنظيمية نتيجة دخولهم في هذه العملية التفاوضية العبثية، فقد وعدتهم أمريكا وعوداً لم يتحقّق منها شيء، فهم تعلّقوا بأوهام الكلمات والديباجات التي زُيّنت لهم للدخول في لعبة التفاوض التي تُجيدها أمريكا، والنظام هو الذي استفاد من الهدنة وليس المعارضة، فاستطاعت قوات النظام أثناء فترة الهدنة تحقيق إنجازات عسكرية محسوسة على الأرض لم تستطع تحقيقها قبل الهدنة، واكتشفت المعارضة متأخرةً أنّ دي ميستورا يتلاعب بها، وقد غيّر قواعد اللعبة المتفق عليها، ومن أهمّها الحفاظ على بقاء بشّار في السلطة، وعدم طرح فكرة الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحية على جدول الأعمال، وإنّما تمّ طرح أفكار عامة على طاولة المفاوضات حول الدستور والانتخابات لا تُسمن ولا تُغني من جوع، فضلاً عن عدم وقف خروقات النظام الفاضحة للهدنة، وعدم فك الحصار عن المحاصرين، وعدم إدخال المواد الإنسانية للمناطق المحاصرة، وليخرج وفد المعارضة من المفاوضات - بعد هذا التغيير في القواعد - صفر اليدين، وليعود بخفي حنين. لذلك كان لا بُدّ للمعارضة من تكتيكٍ جديد تنتهجه ليحفظ لها ماء وجهها، وما تبقّى لها من هيبة في نفوس مؤيديها، فما وجدت من تكتيك تفعله أفضل من (الحرَد) والانسحاب كوسيلة قد تصلح لتحسين وضعها التفاوضي، ولتلميع صورتها أمام مناصريها. فهذا التعليق للمفاوضات مؤقت، وهذا التصعيد للأعمال العسكرية يهدف فقط إلى تحسين شروط المتفاوضين في الجولة القادمة، ولا يهدف إلى إسقاط النظام نهائياً، فالحل السياسي الذي قرّرته أمريكا هو الطريق الوحيد أمام المتفاوضين الذي عليهم الالتزام به، ومَنْ قَبِل بمبدأ التفاوض ابتداء، يستحيل عليه العودة عنه، فالمسألة مسألة مبدأ، فإمّا اختيار طريق الثورة المفضي إلى إسقاط النظام بكافة أشكاله وهياكله ورموزه، وإمّا اختيار طريق التفاوض المذل المفضي إلى إدخال بعض الإصلاحات على النظام القائم، وإضفاء بعض الرتوش التجميلية على وجهه القبيح. فمن يرضى بتولي الأعداء له، وبرعايتهم للعملية السياسية فلا يتوقع أنْ ينجح في عملية التغيير، وها هو أوباما نفسه الذي ترعى دولته هذه المفاوضات يقول بأنّه لا مجال لإسقاط النظام عبر إدخال قوات برّية إلى سوريا، بما يعني أنّ النظام سيبقى كما هو دون تغيير، وأنّ على المعارضة القبول بالنظام القائم، والانضواء ضمن جسمه ودولته إنْ أرادت المشاركة في العملية السياسية. إنّ على الثوار إن أرادوا التغيير الجاد والحقيقي في سوريا، أن يتخلوا عن طريق المفاوضات العقيم، وهي الطريق التي تُفقدهم الكرامة والعزّة، وأنْ يختاروا طريق الإسلام، طريق التحرير الجذري الذي لا يتوقف عند إسقاط النظام وطي صفحته نهائياً من الوجود وحسبْ، وإنّما ينتهي به المطاف إلى تطهير كل بلاد الشام من كل معتدٍ أثيم، وطرد كل عملاء أمريكا وروسيا وجميع الدول المتآمرة على الثورة من جميع المناطق السورية، وتصفية النفوذ الأجنبي تماماً من كل مناطق الثورة، وملاحقة فلوله في كل بقاع المسلمين، والتصدي لمؤامرات القوى الاستعمارية وإحباطها من خلال قوة الدولة الإسلامية التي تستند إلى قوة الفكرة الإسلامية وقوة الأمة الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق