قال فايزالسرّاج رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس الحكومة التوافقية: "إنّ خطة
أمنية جرى الاتفاق عليها مع الشرطة والقيادات المسلحة في طرابلس ومع بعض الفصائل
و الأمم_المتحدة ستسمح للحكومة الموجودة في تونس بالانتقال إلى ليبيا"،
وأكّد في مقابلة له مع قناة ليبيا التلفزيونية: "إنّ حكومة التوافق الوطني
تسير في عملها، وستتواجد في طرابلس قريباً لتمارس عملها، ولدعوة كل المؤسسات
الليبية لرأب الصدع بينها، ولتحمل مسؤولياتها في هذه الظروف الحرجة"، وتابع:
"توصلنا لتفاهمات واضحة جداً على أساس أنّ هذه المجموعات تكون بثكناتها
موجودة لحين إيجاد صيغة للتعامل مع هذه الأطراف، وبالتأكيد سيتم استيعاب هذه
المجموعات وفق آليات محدّدة جداً".
إنّ خطة انتقال حكومة السرّاج التوافقية إلى طرابلس العاصمة، واتفاق السرّاج مع قيادات
عسكرية وسياسية تابعة للمؤتمر الوطني في طرابلس الغرب العاصمة، وقبول الفصائل
العسكرية في غرب ليبيا باستقبال حكومته، وتأمين حمايتها، إن تمّ ذلك كُلّه يُعدّ
مؤشراً جديداً على تحوّل الثقل السياسي في الدولة الليبية من برلمان طبرق في شرق
ليبيا إلى برلمان طرابلس في غربها، ويُعتبر هذا الانتقال عاملاً مهماً في حل
المشكلة الليبية، وتجاوزاً ذكياً لعقبة اللواء المتقاعد خليفة حفتر - رجل أمريكا
العسكري في ليبيا - الذي كان يقف حجر عثرة أمام مصادقة برلمان طبرق على حكومة
السرّاج، والذي كان يُمارس ضغوطاً فعليةً لمنع البرلمان من إقرار الحكومة
بالبلطجة وبقوة السلاح.
لقد حاول السرّاج في الأشهر الأخيرة مراراً وتكراراً إقناع برلمان طبرق - باعتباره
البرلمان المعترف به دولياً - بالمصادقة على حكومته الانتقالية، وقدّم تنازلات
عديدة لجماعة حفتر لنيل الثقة بها، لكنّ كل محاولاته تلك تمّ إفشالها من قبل
حفتر المهيمن على البرلمان من خلال مجلسه العسكري المسيطر على شرق ليبيا، فتمّ وضع
العراقيل أمام طلبات السرّاج لإقرار حكومته بغية إبقاء الأمور عائمة في ليبيا،
لتستفيد أمريكا من الفوضى الناجمة عن ذلك الانقسام بين طرابلس وطبرق، ولتعزّز
نفوذها، ولتُضعف بريطانيا و أوروبا في ليبيا، ولتُرسّخ أقدامها في ليبيا أكثر
فأكثر بحجة محاربة الإرهاب.
وعندما يئس السرّاج من نيل الثقة على حكومته من برلمان طبرق، توجّه غرباً، وطرق أبواب
العاصمة طرابلس الغرب حاضنة المؤتمر_العام، وهي المنافس اللدود لبرلمان طبرق،
ووجد فيها قبولاً مفاجئاً، فقرّر اتخاذها مقراً لحكومته، ومنطلقاً لتوسيع سلطاته
لتشمل فيما بعد جميع المناطق الليبية.
وعندما علمت حكومة طبرق بالأمر أُسْقِطَ في يدها، وأعلنت على الفور رفضها لما يجري في
طرابلس من تدابير تتم من وراء ظهرها، وقال الناطق باسمها: "إنّ فرض حكومة
مدعومة من الأمم_المتحدة بدون موافقة برلمانية يزيد الأزمة تعقيداً"، ودعا
الأطراف الدولية والمحلية إلى عدم التعامل مع الحكومة الجديدة إلاّ بعد حصولها على
ثقة برلمانها (الشرعي)، لكنّ الأطراف الدولية لم تستجب للطلب، بل إنّها تعاملت مع
حكومة السرّاج وكأنّها قد نالت الثقة، وشجّعتها، ودعمتها، وهدّدت بمعاقبة من يضع
أمامها العراقيل.
يبدو أنّ برلمان طبرق، والحكومة المنبثقة عنه، ومن ورائهما خليفة حفتر ومجلسه العسكري،
كانوا يُراهنون في مراوغتهم ورفضهم لمنح حكومة السرّاج الثقة على موقف منافسهم
وخصمهم في طرابلس نوري_أبو_سهمين رئيس المؤتمر العام والذي كان هو الآخر يرفض
منح الثقة لحكومة السرّاج، لكنّ رفضه بدا وكأنّه كان مناورةً لإحراج جماعة طبرق
أمام (المجتمع_الدولي) في الوقت المناسب.
فقبول أبو سهمين المفاجئ لحكومة السرّاج بعد أنْ كان يُظهر التعنت في ذلك، يُعدّ استدراجاً
لبرلمان طبرق، وإحراجاً له، في الوقت الذي يُظهر المؤتمر العام وكأنّه الحريص على
مصالح الشعب الليبي، وأنّه المتعاون مع الأمم المتحدة والمجموعة الدولية التي
تتمثل في أمريكا و فرنسا وبريطانيا و إيطاليا و ألمانيا، والتي طالما دعت
القوى الليبية المختلفة إلى قبول حكومة السرّاج التوافقية
إنّ انتقال حكومة السرّاج إلى العاصمة طرابلس - إن حصل - يعني انتقال الشرعية من طبرق
إلى طرابلس، ويعني تسديد ضربة قاسية لخليفة حفتر ولمجلسه العسكري، ويعني كذلك فتح
الأبواب مشرّعةً لعودة نوّاب طبرق إلى طرابلس بعيداً عن وصاية حفتر، وهو ما قد
يؤدي إلى إسقاط حفتر ومجلسه العسكري، وانتهاء أمره إنْ أصرّ على رفضه لحكومة
السرّاج.
وإذاعلمنا أنّ هناك خلافات حادّة بين عبد الله الثني رئيس حكومة برلمان طبرق ومعه
مجموعة كبيرة من الوزراء والنوّاب وبين خليفة حفتر فإنّ ذلك يزيد من إمكانية
انتهاء القوة السياسية لجماعة طبرق، في الوقت الذي تزداد فيه فرص نجاح حكومة
السرّاج التوافقية التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات.
إنّ فكرة انتقال حكومة السرّاج إلى طرابلس وموافقة جماعة أبو سهمين عليها لا شك أنّها
خطوة سياسية محكمة، بل إنّها ضربة معلم سياسية قامت بها بريطانيا وفرنسا ضد
السياسة الأمريكية في ليبيا، تلك السياسة التي تقف وراء حفتر الذي عمل فيها - طوال
الأشهر الأربعة الماضية التي تلت اتفاق صخيرات - على تخريب جهود الأوروبيين في
إخراج حكومة السرّاج التوافقية.
لكنّ أمريكا لن تعدم الوسيلة، فهي لن تقف مكتوفة الأيدي، بل ستعمل على أخذ نصيبها
كاملاً من النفوذ في ليبيا الغنيّة بالنفط، وذات الموقع الاستراتيجي المهم، خاصّة
والسرّاج نفسه قد عرض فكرة تقاسم المنافع والمراكز بين جماعة طبرق وجماعة طرابلس،
وهو ما أكّده كذلك المبعوث_الأممي مارتن_كوبلر الذي قال: "إنّ البلاد
تحتاج إلى حكومة وحدة وطنية حتى تتمكن من هزيمة تنظيم_الدولة_الاسلامية، وإنّ
الحرب على (داعش) في ليبيا لا يمكن أن تبدأ إلا بوجود حكومة وحدة وطنية، وجيش
ليبي قوي موحد، ويشمل جنوداً من الشرق والغرب"، وأمريكا كانت أصلاً حاضرة
عند تعيين المبعوثين الأمميين وآخرهم كوبلر الذي يمالئها، وحتى اختيار السرّاج
نفسه كرئيس للحكومة الانتقالية جاء بتوافق بريطاني أمريكي، فقد قال سليمان الدريسي
أحد المختصين بالشأن الليبي في 2015/12/27: "إنّ السرّاج اختارته إدارة
الاستخبارات الأمريكية والبريطانية".
وهكذا تبقى ليبيا مسرحاً لصراع استعماريٍ محتدمٍ بين أمريكا وأوروبا، لا يذهب ضحيته إلاّ
أبناء هذه الأمّة الإسلاميّة، وإنّه وإن توقف الصراع بين المتصارعين، أو هدأ
نسبياً، بسبب صفقة بين الطرفين، فالنتيجة لا تكون لصالح أهل ليبيا، وإنّما تكون
تقاسماً للنفوذ فيما بينهما، بينما يبقى أهل ليبيا فريسةً سهلةً، ولقمة سائغةً بين
القوى الدولية الاستعمارية الكبرى، وبدلاً من أن تكون ساحة الصراع في ليبيا بين
المسلمين وبين القوى الغربية المستعمرة، تكون بين المستعمرين أنفسهم، ويكون
المسلمون مجرد أدوات لصراعهم هذا.
لذلك كان لزاماً على الأمّة الإسلامية أنْ تعمل على تغيير مظاهر الصراع، وتسعى لطرد
المستعمرين الأمريكيين والأوروبيين ليس من ليبيا وحسب، بل ومن كل بلاد المسلمين،
ولا يتم ذلك إلا من خلال إقامة كيان إسلامي حقيقي - الخلافة_الراشدة_على_منهاج_النبوة
- يكنس جميع هذه القوى الاستعمارية من كل البلدان الإسلامية كنساً تامّاً.
هناك تعليق واحد:
جيد
إرسال تعليق