في السباق المحموم نحو كرسي الرئاسة الأمريكية، تزداد شراسة الحملات الانتخابية في الولايات الأمريكية، ويعمل الحزبان الكبيران الجمهوري والديمقراطي على حشد الناخبين بكل الوسائل المتاحة خلف المرشحين المحتملين للفوز، فتجري المناظرات الحادّة بين المتنافسين أمام وسائل الإعلام لجذب الناخبين، وتُقدّم للناخبين الوعود غير القابلة للتحقيق، وتُنفق الأموال بسخاء لشراء القواعد الانتخابية، لدرجة أن تكلفة هذه الحملة - والتي سوف تكون الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة - قد تبلغ نحو 6 مليارات من الدولارات حسب تقديرات الخبراء.
انتهت المرحلة الرئيسية الأولى من الانتخابات التمهيدية والتي تمّت فيالأول منهذا الشهر آذار (مارس)، والذي يُسمّى يوم الثلاثاء الكبير، وهو اليوم الوحيد في دورة الانتخابات الأمريكية الذي تُنظّم فيه انتخابات تمهيدية بالتزامن في عدة ولايات بلغت هذا العام 11 ولاية، وتتمثّل أهمّية هذا اليومفي كونه يأتي بتوضيح ملامح خريطة السباق الرئاسي، وينتهي بخروج بعض المتنافسين من السباق، وإعادة تركيب تحالفات بين متنافسين آخرين.
ومن أبرز الملامح التي ظهرت على هذه الانتخابات خلوها من رجال بارزين في السياسة، ودخول رجال المال والأعمال الهواة إلى قلب المعركة الانتخابية، فمثلاً كانت هناك مفاجأة كبرى في انتخابات الحزب الجمهوري، وتمثلت هذه المفاجأة بالنسبة للحزب وللمراقبين والمحلّلين على حدٍ سواء في ظهور دونالد ترامب في صدارة المترشحين الجمهوريين، حيث في بداية الموسم الانتخابي لم يكن أحد ليعير ترامب أي اهتمام، بينما أصبح اليوم في طليعة المترشحين الناجحين، ودونالد جون ترامب هذا هو ليس رجل سياسة، ولا علاقة له بالسياسة، بل هو رجل أعمال، وملياردير، وشخصية تلفزيونية، ومؤلف وكاتب، وهو رئيس مجلس الإدارة ورئيس منظمة ترامب العقارية، وهو المؤسس لمنتجعات ترامب الترفيهية التي تدير العديد من الكازينوهات والفنادق وملاعب الغولف والمنشآت الأخرى في جميع أنحاء العالم.
إنّه يخوض هذه الانتخابات كرجُل أعمال ناجح وليس كسياسي متمرّس، بل يخوضها دون أية خبرة سياسية سابقة، وتصدُّر ترامب للانتخابات لهو دليل على أنّ الناخبين قد ضاقوا ذرعاً من الأحزاب السياسية ومن أساليبها العتيقة البالية، التي أصابت الناخب الأمريكي بنفور واضح من غالبية السياسيين التقليديين، وأصبح يبحث عن وجوه جديدة.
يطرح ترامب أفكاراً غريبة على الوسط السياسي الأمريكي، وبالذات على الوسط الجمهوري المحافظ، كقوله بتعزيز العلاقات بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وادّعائه بأنّه يملك القدرة كرجل أعمال على تدبّر الأمور مع بوتين، ليساعده في معالجة الوضع السوري بشكل أفضل مما تفعله إدارة أوباما، وقد تحدّث ترامب في المناظرة الثانية أمام أحد عشر مرشحاً للحزب الجمهوري عن الحرب ضد تنظيم الدولة وعن الصراع في سوريا والعراق فقال: "فلنتركهم يقاتلون بعضهم لنأتي نحن في النهاية ونقطف ما نستطيع".
وبالرغم من مهاجمة غالبية رجال الحزب الجمهوري تصريحاته تلك، وتصريحاته الأخرى العنصرية ضد المسلمين، وبالرغم من أنّهم قدّموا وثيقة مشتركة تدعو إلى منعه من الاستمرار في خوض الانتخابات، بالرغم من ذلك فقد صمد أمامهم جميعاً، بل وتفوق عليهم.
وقد قال الموقعون على الوثيقة إن مبادرات ترامب: "قد تقوض أمن الولايات المتحدة في حال انتخابه رئيسا للدولة، فتصريحاته تسمح بالاستنتاج بأنه قد يستخدم صلاحياته كرئيس للدولة من أجل القيام بأعمال ستجعل الولايات المتحدة دولة أقل أمانا وسيضعف موقعها في العالم".
وانتقد الجمهوريون كذلك وجهات نظر ترامب حول مسائل الهجرة، بما في ذلك عزمه بناء جدار عازل على حدود المكسيك، وكذلك انتقدوا لهجته المعادية للمسلمين: "التي تقوض الكفاح ضد الإسلاميين" حسب قولهم، والتي قد تدفع الشركاء المسلمين إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة.
ووصفت الرسالة الجماعية للقادة الجمهوريين ترامب بأنّه لا يصلح بتاتا لشغل منصب رئيس البلاد، وشدّد موقعو العريضة على أنهم سيبذلون كل الجهود من أجل منعه من الوصول إلى البيت الأبيض.
ومن بين الذين وقّعوا على الرسالة الرئيس السابق للبنك الدولي نائب وزير الخارجية السابق روبرت زوليك، والوزير السابق للأمن القومي مايكل شيرتوف، ودوف زاخيم، الذي عمل نائبا لرئيس البنتاغون خلال فترة رئاسة جورج بوش الابن.
وانضم أخيراً إلى حملة انتقاد ترامب، ميت روني الحاكم السابق لولاية ماساتشوستس الذي خاض الانتخابات الرئاسية في العام 2012 عن الحزب الجمهوري، وقال روني في كلمة ألقاها في أحد المعاهد: "إن ترامب عديم الذكاء في السياسة الخارجية، وتصريحاته في هذا المجال تثير قلق الحلفاء وترفع معنويات الخصوم"، وأشار روني إلى أن ترامب الذي أعرب عن إعجابه بالرئيس فلاديمير بوتين قد وجّه في الوقت نفسه الانتقاد للرئيس الأسبق جورج بوش.
ولكن مع كل ذلك الهجوم الجمهوري على ترامب يبقى هو الأوفر حظّاً بالفوز للترشّح عن الحزب الجمهوري أمام المرشح الديمقراطي في السباق على رئاسة الدولة.
وأمّا في المعسكر الديمقراطي فقد خرج الخاسرون من هذه الجولة الأولى للانتخابات، وانحصر التنافس بين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية السابقة وبين منافسها بيرني ساندردزالسيناتور السابق عن ولاية فيرمونت، والذي كان نائبًا في الكونجرس من 1991 حتى 2007، وقد تفوقت كلينتون عليه بأصوات سبع ولايات يبلغ ثقلها الانتخابي 577 مقعدًا، مقابل 386 مقعدًا من 4 ولايات فاز بها ساندرز، وجرت بينهما بعد تلك التصفية مناظرة حادة بشأن السياسة الخارجية والسياسات المالية للولايات المتحدة، وأظهرت كلينتون فيها أنّها تؤيد فرض منطقة حظر جوي فوق شمال سوريا قرب الحدود التركية، وإنشاء مناطق آمنة للاجئين تمكّنهم من البقاء في سوريا، ودعت إلى إشراك الدول العربية للمساعدة في دعم هذه المنطقة الآمنة، أمّا ساندرز فدعا إلى أنْ تقود الدول العربية المعركة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، بما في ذلك استخدام القوات البرية، مطلقاً على الحملة اسم "معركة من أجل روح الإسلام" على حد زعمه.
وهكذا فقد كشفت هذه الانتخابات التمهيدية الأمريكية بين المتنافسين الديمقراطيين والجمهوريين - بالإضافة إلى دخول رجال المال والأعمال مباشرة إلى عالم السياسة - كشفت عن ميول عُدوانية صارخة تجاه قضايا العالم الإسلامي، كما كشفت عن رغبة جامحة لدى جميع المترشحين في المزيد من التدخّل في شؤون البلدان الإسلامية.
وقد اتفق معظم المرشحين الجمهوريين والديمقراطيين على أن الاستراتيجية التي اتبعتها إدارة الرئيس أوباما ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق لن تحقق النصر الحاسم على التنظيم الذي يزداد قوة، فيرى المرشح الجمهوري جيب بوش أن هناك فجوة بين تعهد الرئيس الأمريكي بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية وكافة التنظيمات الإرهابية في المنطقة وبين سياسات الإدارة الفعلية، وقال بأنّ الإدارة لم تقدّم الدعم إلى الدول التي تقاتل تنظيم القاعدة في اليمن، وهو الأمر الذي أظهر الولايات المتحدة أنها ليست شريكا موثوقاً فيه في الحرب ضد تنظيم القاعدة والشبكات الإرهابية الأخرى في المنطقة على حد قوله.
وكالعادة أظهر كافة المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية من كلا الحزبين عن كامل تأييدهم القوي واللامتناهي لدولة يهود بشكل عام ولحكومة بنيامين نتنياهو بشكل خاص، وأعادوا تأكيدهم على أن كيان يهود هو حليف استراتيجي دائم وثابت للولايات المتحدة، وقرّروا أنّ أمن وبقاء كيان يهود مصلحة أمريكية.
وبالنسبة لما يُسمّى (بعملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية) فقد رأى غالبية المرشحين من الحزبين أنّ سبب تعثّر عملية السلام تلك يرجع إلى عدم وجود شريك فلسطيني على حد قول المرشح الجمهوري تيد كروز الذي دعا إلى أن تقف الولايات المتحدة بقوة إلى جانب كيان يهود في المفاوضات، وأمّا جيب بوش فقال بأنّ قيام دولة فلسطينية بجانب دولة يهود ممكن فقط إذا تمّ تمثيل الشعب الفلسطيني من قبل قادة ملتزمين بالوفاء بالوعود التي يتم التوصل إليها على طاولة المفاوضات على حد قوله.
هذه هي أبرز ملامح الخطاب السياسي الأمريكي الذي ساد مخاض الانتخابات التمهيدية الأمريكية، وهي ملامح فيها ما هو جديد كدخول رجال المال والأعمال بشكل مباشر وبفجاجة إلى عالم السياسة، بعد أن كانوا من قبل يكتفون فقط بتمويل رجال السياسة الذين يُريدونهم عن بُعد، ومنها ما هو قديم كالتمادي في التدخل بشؤون البلدان الإسلامية، وتحويل جيوشها وشعوبها إلى وقود لإشعال فتيل الحروب في قلب العالم الإسلامي لتثبيت النفوذ الأمريكي فيه، ولاستمرار التحكّم في مُقدّراته، وبقاء استعماره، وكتقديم الدعم المطلق لدولة يهود.