احمد الخطواني
إنّ ممّا خلّفته بريطانيا في استعمارها لبعض بلاد المسلمين أوضاعا سياسية شاذة خبيثة، أنتجت فيها حالة من التهميش ما زالت تعاني منها بلدان إسلامية كبيرة إلى وقتنا هذا، فحولت بريطانيا بموجبها الأكثرية الإسلامية الطبيعية في بلدان إسلامية عريقة إلى دول غير مركزية، وإلى مجاميع بشرية مشتتة تفتقر إلى القدرة على التحكم في بلدانها.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما فعلته بريطانيا في الهند ونيجيريا اللتين كانتا تمتازان بتركز ديموغرافي إسلامي طبيعي كبير فيهما؛ ففي الهند قامت بريطانيا بفصل الكثير من المسلمين عن الهندوس، وأقامت لهم دولاً هامشية في الأطراف، مُفتقدةً للثقل الديموغرافي، ومحرومةً من السيطرة الجيوسياسية على الأرض، فقسمت البلاد ومزقتها، وركزت الهندوس في قلب البلاد، ومنحتهم دولة مركزية متنفذة ضمت إليها مساحات واسعة من شبه القارة الهندية، ومن ضمنها مساحات كبيرة تقطنها مجموعة إسلامية كبيرة لم تلحقها بريطانيا بامتدادها الديموغرافي الطبيعي في باكستان، وما نشهده اليوم من تسلط الهندوس على المسلمين وقتلهم وهدم بيوتهم واضطهادهم، ما هو إلا نتيجة طبيعية لهذا النتاج الاستعماري البريطاني.
وأما في نيجيريا فقامت بريطانيا بالعكس، فبدلا من تقسيم المناطق بحسب سكانها الطبيعيين، قامت بضم إثنية وثنية ونصرانية من الجنوب إلى الأكثرية المسلمة في الشمال، فدمجتهما في دولة واحدة نتج عنها إضعاف الأكثرية لميزتها الطبيعية، ففقدت التركيز الإسلامي في البلاد، وخسرت ثقلها، وتلاشت سيطرتها الديموغرافية على صنع القرار الاستراتيجي، وأصبح النصارى التابعون للغرب في نيجيريا هم حكام البلاد الحقيقيين.
لقد احتلت بريطانيا الهند لمائة عام، وهي لم تسرق ثرواتها وتستنزف مواردها وحسب، بل قامت بإثارة الفتن والعداوات بين أصحاب المذاهب الوثنية والمسلمين، وألّبت الهندوس بشكل خاص على المسلمين، بعد أن كانوا يعيشون في ظل الحكم الإسلامي وتحت سلطان الدولة الإسلامية لمئات السنين، وعندما حان موعد الاستقلال افتعلت بريطانيا حرباً أهلية في العام 1946 بين الطرفين، طرف بقيادة حزب المؤتمر الهندي برئاسة نهرو، وطرف آخر بقيادة محمد علي جناح الذي انشق عن حزب المؤتمر وشكل حزب العصبة الإسلامية الذي طالب بقوة وحماسة غير طبيعية بفصل المسلمين عن الهند بعد أن كان من المدافعين الشرسين عن وحدة البلاد، لكنها توجيهات أسياده البريطانيين، فكانت النتيجة منح الاستقلال لدولتي الهند وباكستان في العام 1947، وقامت بريطانيا برسم الحدود الصناعية بين الدولتين الجديدتين خلال خمسة أسابيع، ووافق عليها مجلس العموم البريطاني، ورعى المندوب السامي البريطاني اللورد ماوتن مفاوضات التقسيم والاستقلال، وكان هذا التقسيم محابياً للهندوس بالطبع، فمنحهم هذا التقسيم معظم الأراضي في شبه القارة الهندية، بالإضافة إلى معظم كشمير، كما وجعل ملايين المسلمين تحت حكم الهندوس، الذي بلغ عددهم اليوم أكثر من 200 مليون يخضعون لبطش الهندوس وحقدهم، وجعل دولة باكستان مقسمة إلى شطرين؛ شرقي وغربي يفصل بينهما 2000 كيلومتر من الأراضي الهندية، وسهل ذلك الوضع على الهند في العام 1971 فصل باكستان الشرقية تحت اسم بنغلادش عن باكستان الغربية فزاد هذا الفصل المسلمين ضعفاً على ضعف، وتفرقّوا شذر مذر
هذا هو الإرث البريطاني الاستعماري في الهند وهو ما يعاني منه المسلمون اليوم، ويعانون من نتاجه الإقصائي الظالم بسبب هذا التقسيم الجائر الذي فعلته بريطانيا في بلاد الهند الإسلامية.
وأما النموذج الاستعماري الآخر فهو ما فعلته بريطانيا في نيجيريا، وهو كان من حيث الشكل يعتبر عكس النموذج الأول، إذ هو نموذج اندماجي وليس تقسيمياً، فالأراضي المسماة نيجيريا اليوم حكمتها بريطانيا لأكثر من قرن ونصف، وهي مؤلفة من منطقتين مختلفتين في الدين والعرق والثقافة واللغة والتضاريس، بل وفي كل شيء تقريباً، فلا علاقة لإحداهما بالأخرى، ففي الشمال مسلمون ملتزمون بالشريعة الإسلامية، وفي الجنوب وثنيون ومتنصرون، ومع ذلك قامت بريطانيا بتوحيدهما في دولة واحدة، جعلت مركز القرار فيها لأهل الجنوب الذين قامت بتنصير غالبيتهم، كما وجعلت العاصمة سايغون في الجنوب لا لشيء إلا لتقضي على التركيز الديموغرافي الإسلامي في الشمال.
فمنذ العام 1914 قامت بريطانيا بتوحيد الهياكل الإدارية والسياسية في المنطقتين تمهيداً لإخراج دولة نيجيريا الاتحادية الحالية الهزيلة التي يسيطر عليها النصارى والعلمانيون المسلمون التابعون لبريطانيا، فيما همشت المناطق الشمالية لقبيلتي الهاوسا والفولاني اللتين ما زالتا تتمسكان بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في المحاكم رغماً عن بريطانيا ورغماً عن عملائها.
وحتى اسم نيجيريا فقد اخترعته زوجة حاكم بريطانيا في البلاد آنذاك لورا شو، فهو ليس أصلياً، ولو مُنحت المناطق الإسلامية الشمالية الاستقلال لوحدها بدون الارتباط بالجنوب لربما شُكّلت دولة إسلامية قوية بالاشتراك مع امتدادها الإسلامي الطبيعي في مالي وتشاد والنيجر والتي كانت يوما دولة إسلامية عظمى.
لكن الخبث الإنجليزي فصل المسلمين في شمال نيجيريا عن إخوانهم في جوار الدول المغاربية، وربطهم بالوثنيين والنصارى في الجنوب الذين لا علاقة لهم بهم.
ونيجيريا اليوم هي كيان عملاق في أفريقيا بعدد سكان يزيد عن المائتي مليون، أكثر من نصفهم من المسلمين، لكن تأثيرها في الوضع الدولي يكاد يكون صفراً!
هذه هي الموروثات الاستعمارية الإقصائية لبريطانيا، وهذا هو نتاج سياستها الاستعمارية المدمرة على الإسلام والمسلمين في هذه الأيام