الأحد، 17 يوليو 2016

العلاقة مع روسيا تتصدّر مُداولات قمة الناتو في وارسو



العلاقة مع روسيا تتصدّر مُداولات قمة الناتو في وارسو




بحث أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قمته الأخيرة التي عُقدت يومي الجمعة والسبت 8 و9 تموز/يوليو الجاري في العاصمة البولندية وارسو موضوعات كثيرة، لكنّ واحداً منها فقط هو الذي هيْمَنَ على مداولات القمّة، ألا وهو موضوع الخطر الروسي على دول شرق أوروبا، فكان هو الطاغي في المناقشات، وفي القرارات، وفي الإجراءات.
لقد اتُخّذ أهم قرار في هذه القمّة - وعلى وجه السرعة – والذي يقضي بنشر أربع كتائب عسكرية جديدة في شرق أوروبا، فقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: "قرّرنا تعزيز وجودنا العسكري في الجزء الشرقي من التحالف ويسرني أن أعلن أن كندا ستكون الدولة الرائدة في لاتفيا، وألمانيا ستقود كتيبة في ليتوانيا، والمملكة المتحدة ستتواجد في إستونيا والولايات المتحدة الأمريكية في بولندا"، وأعلن قادة الناتو في نهاية اليوم الأول من مباحثاتهم في القمّة عن مضاعفة حجم قوات الحلف العاملة من 5000 جندي إلى 40 ألفاً من قوات التدّخل السريع في مختلف مناطق النزاع.
وكانت قد انطلقت في بولندا الشهر الماضي (أناكوندا 16) وهي أضخم مناورات عسكرية في تاريخ الناتو منذ انتهاء الحرب الباردة، بمشاركة أكثر من 30 ألف جندي من 24 بلدا من دول الحلف، ومن دول أخرى تابعة للحلف، وقد تم اختيار بولندا تحديدا لكونها كانت معقل حلف وارسو الذي أقامه الاتحاد السوفياتي السابق ردّاً على حلف الناتو في خمسينات القرن الماضي، والذي تلاشى وجوده في العام 1991 مع اندثار الاتحاد السوفياتي، فكانت هذه المناورات التي سبقت القمّة بمثابة رسالة تحدٍ استفزازية لروسيا تُبيّن لها انتهاء نفوذها في معظم مناطق شرق أوروبا.
وكان قد سبق تلك المناورات في 13 أيار/مايو الماضي وضع حجر الأساس في بولندا لقاعدة صواريخ اعتراضية متوسطة المدى من طراز (إس ـ أم ـ 3)، ولقد أقام حلف الناتو حتّى الآن ثمانية مراكز قيادة في الجزء الشرقي من أوروبا.
إنّ تضييق الناتو على روسيا لا يتوقف عند الحدود العسكرية، فهو يتعداها إلى الناحية الاقتصادية، فقد حثّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما دول الحلف على استمرار فرض العقوبات المفروضة على موسكو حتى تلتزم تماما باتفاق وقف إطلاق النار في أوكرانيا، وكان أوباما قد أجرى في منتصف الشهر الماضي لقاءات عديدة في واشنطن مع زعماء السويد والدنمارك وفنلندا، والنرويج وأيسلندا، حرّضهم فيها ضدّ روسيا، ودعاهم إلى تمديد العقوبات المفروضة عليها بسبب أوكرانيا، وطالبهم بتعزيز قوّاتهم لتكون على مقربةٍ من حدود دول البلطيق.
وقال نائب مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض بن رودس: "إنّ العدوان المستمر لروسيا سيستدعي رداً من الحلف، ووجوداً أكبر له في شرق أوروبا"، ودعا المجلس البرلماني لحلف شمال الأطلسي الدول الأعضاء إلى: "الاستعداد للرد على التهديد المحتمل المتمثل بعدوان روسي ضد الدول الأعضاء في الحلف".
وأمّا رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون فقد دعا في المؤتمر إلى إجراء حوار مع روسيا ولكن من منطلق الوحدة والقوة، وقال: "إنّ حدود أوروبا أعيد تخطيطها من قبل قوة عظمى (الاتحاد السوفياتي)، وعلى أوروبا وحلف الناتو الوقوف بشكل حازم في وجه هذا الأمر".
وبالرغم من محاولة الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ إظهار الحلف وكأنّه موحد في مواقف أعضائه تجاه روسيا وقوله في القمة: "نحن متحدون"، إلاّ أنّ مواقف فرنسا وألمانيا وإيطاليا قد اختلفت تماماً عن مواقف أمريكا وبريطانيا وبولندا - التي قامت بشكل خاص في القمّة بدور تحريضي شديد ضد روسيا - وقد حذّرت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا من الانسياق وراء السياسات العدائية التي تقودها بولندا تجاه روسيا.
فقال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند: "روسيا لا تعد خصما لفرنسا أو خطرا على أمنها"، واعتبر أنّ حلف شمال الأطلسي عليه أنْ لا يسعى إلى التأثير في العلاقات التي يجب أن تقيمها أوروبا مع روسيا، وبرّر استخدام روسيا القوة في أوكرانيا، فقال: "إنّ روسيا شريك يمكن أحيانا أن يستخدم القوة، كما حدث في أوكرانيا والقرم".
أمّا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقالت: "على غرار التفاهمات بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا فإن من مصلحة الجانبين أن ينسق حلف الأطلسي وروسيا أنشطتهما".
وتعاونت فرنسا وألمانيا مع روسيا بشكلٍ مخالفٍ تماماً لمواقف أمريكا وبريطانيا، واتّصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تليفونياً قبل دقائق من بدء القمة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، وطلب منهما "ممارسة نفوذ أكبر على الجانب الأوكراني ليمنح شرق أوكرانيا حكما ذاتيا أوسع".
وكان ردّ الكرملين على نشر الحلف لأربع كتائب في بولندا ودول البلطيق ردّاً دبلوماسياً باهتاً ينمّ عن ضعف شديد فقال: "إنه يعتبر تلميح حلف شمال الأطلسي بأن روسيا تمثل تهديدا أمرا سخيفا"، وعبّر عن أمله في أن: "يسود المنطق السليم قمة الحلف"، وأكّد على أنّ: "موسكو لا تزال مستعدة للحوار والتعاون مع الحلف".
وأمّا من ناحية عسكرية فكان رد روسيا على تشغيل حلف الناتو للدرع الصاروخية الأمريكية الموجودة على الأراضي البولندية الإعلان عن أنّها ستنشر صواريخ ذات قدرات نووية في كاليننجراد، وهي جيب روسي صغير يقع بين بولندا وليتوانيا، لكنّها لم تُنفّذ هذا الإعلان حتى الآن.
وهكذا فإنّ التصعيد الأمريكي ضد روسيا واضح قبيل وأثناء القمّة، سواء بالتوسّع العسكري في المناطق المحاذية لروسيا، أو في استمرار فرض العقوبات الاقتصادية عليها، فأمريكا تُريد تحجيم روسيا تماماً، وتُريد إنزالها من مستوى الدولة الكبرى إلى مستوى الدولة الإقليمية، ولم يشفع لروسيا تعاونها مع أمريكا في الموضوع السوري، ولم يكن للموقفيْن الفرنسي والألماني المتعاطفيْن مع الروس، والمشاكسيْن لأمريكا، أي أثر في تغيير موقف حلف الناتو العدائي تجاه روسيا، وما جرى في الحلف يؤكّد أنّ أمريكا ما زالت تتحكّم في أوروبا، وتتعسّف في العالم، من خلال قيادتها لهذا الحلف.
إنّ على الدول الأوروبية الكبرى إذا أرادت الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية أنْ تتجرأ وتترك حلف الناتو، وتصنع لنفسها تكتلاً عسكرياً آخر لا تأثير لأمريكا عليه، لكنّ هذه الدول واضح من سلوكها أنّها أجبن من أنْ تتخذ مثل هذا القرار، وأمّا روسيا والصين بوصفهما من القوى الكبرى فهما أيضاً أضعف من أنْ تُواجها أمريكا وحلف الناتو.

لم يبقَ من أمل للبشرية التي تتوق إلى التخلص من أحادية الموقف الدولي، إلاّ قيام دولة الإسلام باعتبارها الدولة الوحيدة التي بمقدورها أنْ تتجرأ على مواجهة أمريكا، وأنْ تضع بالتالي حداً للعنجهية الأمريكية، وذلك بفضل ما تملك من إرادة حقيقية صلبة لتحدي أمريكا، هذه الإرادة النابعة من إيمانها بالإسلام العظيم الذي يمنحها قوةً غير محدودة في التصدي لطغيان وجبروت أمريكا بحق الشعوب المستضعفة، وفي التصدي لتجبّر كل قوى البغي والشر والاستكبار.