الخميس، 19 نوفمبر 2015

سياسات تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية



سياسيات تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية







منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا في العام 2002 وحتى هذا العام 2015 لم تُطبّق تركيا على مستوى الدولة أي حكم شرعي واحد، وحتى إنّها لم تتبنّ المرجعية الإسلامية - لا بالشكل ولا بالمضمون - لا في نظامها ولا في دستورها ولا في قوانينها، بل وأصرّت دائماً على أنّها دولة علمانية وطنية ديمقراطية، واستمرت في تمجيد هادم الخلافة مصطفى كمال في الإعلام، واعتبار كل ما قام به من هدم للإسلام، وإلغاء للشريعة، بمثابة أساسٍ متين للدولة في مرجعيتها ودستورها وقوانينها، فإرث المجرم مصطفى كمال المعادي للفكر الإسلامي والمحابي للفكر الرأسمالي، يُعتبر بالنسبة لحزب العدالة - كما بالنسبة لسائر الأحزاب التركية الأخرى التي تقلبت في الحكم - خطاً أحمر لا يُسمح بتجاوزه، ولا تغييره.
أمّا السماح ببروز بعض مظاهر التدين في تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية كبناء المساجد، وإنشاء دور تعليم القرآن، ولبس النساء للجلباب، وما شاكل ذلك، فلا علاقة له بتطبيق الدولة للإسلام، وإنّما له علاقة بتطبيق فكرة الحريات التي تسمح للأفراد بالقيام بمثل هذه النشاطات، تماماً كما تسمح لهم بالشذوذ والتعري ونشر الرذائل، فمفهوم حريات الاعتقاد والتعبير في النظام الرأسمالي يعني أنّ تلك الحريات هي ملك للجميع، ومتاحة للجميع، بغض النظر عن مللهم ومذاهبهم، سواء أكانوا مؤمنين أم ملحدين، متدينين أم غير متدينين، من دون أي فرق بينهم.
وأمّا منع ‫#‏الأتراك‬ من ممارسة شعائرهم التعبدية، ومنع النساء من لبس الحجاب في ظل الحكومات السابقة، فقد كان في الأصل مخالفاً لمفهوم الحريات الفردية في النظام الرأسمالي المطبّق، ومخالفاً للفكرة العلمانية التي في العادة لا تفرض أي قيود على أي نشاطات فردية سواء أكانت دينية أم إلحادية أم غير ذلك.
ولمّا جاءت حكومة العدالة والتنمية ساوت بين الجميع في الحريات، وأحسنت تطبيق مفهوم الحريات ‫#‏الرأسمالية‬ هذا، فظنّ المتدينون أنّها أصبحت تُطبّق الإسلام بشكل تدريجي، بينما هي في الواقع تُطبّق العلمانية الرأسمالية بحذافيرها.
وهذا النموذج العلماني (الإسلامي!) الذي يُطبّق بأيدي مسلمين متدينين هو بالذات الذي رعته ‫#‏أمريكا‬ ودعمته، واعتبرته مثالاً جيداً للحكم ينبغي تعميمه في سائر بلاد المسلمين، لأنّه نموذج لا يُمكن أن يُفضي يوماً إلى تطبيق الشريعة الإسلامية.
وأمّا بالنسبة للرابطة التي تربط بين أفراد الشعب في تركيا وفقاً لرؤية حزب العدالة والتنمية فلا علاقة لها بالعقيدة الإسلامية، بل هي رابطة وطنية قومية من جنس الروابط العصبية الجاهلية، وتعتمد على العنصر التركي بوصفه المكوّن الرئيس الذي يجمع سائر مكونات الشعب الأخرى من حوله، وفي كلمة لرجب طيب أردوغان ألقاها في المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية يؤكد على أهمية هذه الرابطة فيقول: "في هذه الحركة، عرَق جبين توركوت أوزال، ومجهودات نجم الدين أربكان، إنها حركة تستمد تاريخها من ماض لم نقطع حبل التواصل معه، فيها روح عبد الحميد، وإيمان سلطان ألب أصلان، وأفق مصطفى كمال". وأضاف: "هذه الحركة تغذت من الينابيع العذبة التي تجري من أحمد يسوي إلى حاجي بكتاش، ومن نجيب فاضل إلى ناظم حكمت، ومن محمد عاكف إلى سيزاي كاراكوتش".
فهو قد ساوى في كلمته بين البر والفاجر، والمؤمن والملحد، والشيوعي والصوفي، والفيلسوف والشاعر وعارضة الأزياء، وكل ذلك كان على أساس رابطة الدم والعرق.
أمّا في السياسة الاقتصادية فلو سلّمنا جدلاً بأنّ تركيا قد تحسّن وضعها الاقتصادي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، فزاد الدخل الإجمالي والفردي عدة أضعاف، وانتعشت الصناعة والتجارة والسياحة، وقلّت البطالة، وزادت الاستثمارات الخارجية في مشاريع كبيرة داخل تركيا، وتحسّن وضع تركيا في التصنيفات الدولية المختلفة، فإنّ هذا التحسّن على فرض حصوله، يعود لتطبيقهم النظام الرأسمالي وليس النظام الإسلامي، بمعنى أنّه يربط الدولة والمجتمع في تركيا برباط محكم بالنظام الربوي العالمي القاتل، وبالعولمة الرأسمالية الطاغية التي تجعل مقاليد النظام الاقتصادي التركي بأيدي الشركات الأجنبية الاستعمارية عابرة الحدود، وهي الشركات التي غالباً ما تُحرّكها أيادٍ أمريكية مشبوهة.
وبسبب وجود التداخل الطبيعي بين الاقتصاد والسياسة نجد أنّ سياسة الدولة التركية الخارجية تبقى رهينة تحت تأثير سيطرة رأس المال الأجنبي، وبالتالي فهي غير قادرة على الخروج عن ثوابت السياسة الغربية عموماً، والسياسة الأمريكية على وجه الخصوص، لذلك نجد الحكومة التركية مثلاً مستمرة في علاقتها المشبوهة مع دولة يهود بالرغم من قيام الأخيرة بقتل رعاياها الأتراك في حادثة أسطول الحرية، ونجدها مثلاً خذلت ‫#‏ثورة‬ ‫#‏الشام‬ بالرغم من إعلانها العاطفي المرة تلو المرة بأنّها مع الثورة، وبالرغم من تكرار حديثها دائماً عن ضرورة تنحي الأسد، بينما الدولة وجيشها لا يفعلان شيئاً لإسقاطه، فأصبح من المألوف بالنسبة للسياسيين الأتراك من حزب العدالة والتنمية أن نجد أقوالهم تُخالف أفعالهم، وأفعالهم لا تعكس أقوالهم.
إن مجرد استمرار بقاء تركيا في ظل حكم هذا الحزب في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتهالكها على دخول منظومة الاتحاد الأوروبي، ليضعان ألف علامة استفهام على ادعاء بعض المدّعين بانتساب حزب العدالة والتنمية للإسلام.
فأي إسلام هذا الذي ينحاز للاتحاد الأوروبي النصراني ولحلف ‫#‏الناتو‬ الصليبي؟، وأي إسلام هذا الذي يفتح القواعد العسكرية التركية للجيش الأمريكي؟، وأي إسلام هذا الذي يجعل من الحريات الفردية عقيدة ومن العلمانية منهاج حياة؟.
فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، ولا يصح أن يُساوى بينه وبين الإلحاد، وأن يوضعا في سلة واحدة بحجة الحريات، وهو أكبر من أن يُختزل في أحكام الأسرة ولباس المرأة، وأسمى من أن يندرج في جزئيات رابطة من روابط العصبية الجاهلية كالرابطة الوطنية أو القومية، وموضوع الحكم ليس مسألة عاطفية فلا يتعلق بالأفراد أو الأشخاص، وإنّما يتعلق بالأفكار والعقائد والأحكام والمقاييس، ويشمل الأفراد والدولة والمجتمع والعلاقات.